السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الحج السياسي

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يخرج عباد الله الطيبون من كل فج عميق قاصدين بيت الله الحرام، ليس فى قلوبهم إلا قصد وجه الله الكريم، يطوفون حول البيت العتيق، ويسعون بين الصفا والمروة، ويقفون على جبل عرفات، ويرجمون إبليس اللعين مودعين فى جمراتهم كل غضبهم من تآمره الأكبر عليهم، يدعون الله راجين عفوه ومغفرته، طامعين فى أن يعودوا من الأراضى المقدسة كيوم ولدتهم أمهاتهم لا لهم ولا عليهم، فهم خلصاء الله الذى أزال عنهم الذنوب.
لا يفكر عباد الله الطيبون فى شىء أكثر من هذا، قد تراودهم الدنيا فيأتون ببعض الهدايا البسيطة، طالبين بها رضا من حولهم، وبعد أن يعودوا وتستقر بهم حياتهم، يطعمون فى أن يعودوا مرة أخرى، فأشواقهم تقودهم إلى أرض الرحمات التى لا تنقطع.
لكن هل هذا هو الحج كله.
إنها الشعيرة الأعظم فى الإسلام.. ليس لأنها الأهم، ففى الصلاة كل العبادات، وفى الصوم الإخلاص كله لله، وفى الزكاة كل معانى الإيثار للآخرين، وفى الشهادة توحيد مطلق وتسليم لله.. وهى كلها شعائر عظيمة، لكن يظل الحج هو الأعظم، لأن أثره يتجاوز إيمان الفرد بما يعتقد أنه صحيح، ويتجاوز أيضًا علاقة المسلم بربه، التى هى علاقة خاصة جدًا، ليتم من خلاله الإعلان عن قوة الإسلام وسطوته وتحديه للعالم كله.
لا تجد ديانة أخرى يجتمع لها فى مكان واحد كل هذه الملايين، فى مؤتمر عالمى كل عام، لا يتم إلغاؤه مهما كانت الأسباب، بل إن الخلافات السياسية تتوارى فى ثيابه، فكم من دولة اختلفت سياسيًا مع النظام السعودى، حارس الحرمين وخادمهما، لكننا لم نجد أبدًا دولة منعت مواطنيها من الذهاب إلى الأراضى المقدسة، لقناعة الجميع بأن البيت بيت الله، لا يستطيع أحد أن يمنع أحدًا عنه، وإذا كانت هناك سلطة للدولة السعودية، فهى سلطة تنظيم وليست سلطة ملكية على الإطلاق.
انتبه الفقهاء المفكرون إلى ما فى الحج من سمات سياسية، ومن بين ما استقروا عليه، وهو ما جمعته من سطور كثيرين ما يلى:
أولًا: الحج من الناحية السياسية هو مؤتمر اجتماع وتعارف وتنسيق وتعاون بين المسلمين، وتتجلى الفائدة السياسية عندما يتحول الأمر إلى واقع عملى منظم فى عدد من الصور، ففى الحج، الذى هو مؤتمر إسلامى بكل المعانى، تتجمع قيادات المسلمين فى العالم الإسلامى ومن مناطق الأقليات الإسلامية، يجتمعون تحت رعاية الجهات الرسمية والمؤسسات الشرعية العامة.
ثانيًا: تتجلى السياسة فى الحج أيضًا فى مخاطبة كافة المسلمين ممن يحضرون الحج، وحتى من لا يحضرونه بما ينقل لهم عن طريق الأشخاص، ليعلموه ويبلغوا من وراءهم، أو بما يستجد من وسائل حديثة من النقل المباشر وغير المباشر للحج، وما يعلن فيه من بيان للقضايا التى تهم الأمة كلها.
ثالثًا: تأتى خطبة عرفة وما تتضمنه من معان وكأنها بيان للأمة كلها، وهى فى ذاتها خطبة سياسية أكثر منها خطبة دينية، يعلن من يلقيها عن تماسك الأمة فى مواجهة الأخطار التى تحيط بها، ورغم أنها لا تتجدد كثيرًا كل عام، إلا أنها تظل رسالة واضحة للعالم كله، وليس للمسلمين فقط، بأن الكيان الذى يجتمع حوله المسلمون فى كل مكان أقوى وأعظم من أن يتحداه أحد.
رابعًا: يتعاظم شأن السياسة كذلك فى الحج من خلال تحديد حرمة المكان وبيان عمقه الاستراتيجى الذى يشرع لمن يدين بالدين أن تطأ قدماه المدينة المحرمة المقدسة، فيأتى المسلم إلى البيت الحرام بشعور الانتماء للأمة الإسلامية، كما لو كان البيت بيته، بينما تتمنع قداستها وحرمتها عن قبول من لا يدين بدين أهلها، ولا ينتمى لولائها الدينى زمانا ومكانا وأمة، أن يطأها بقدميه دون أن يؤمن بقدسيتها وحرمتها.
هذا كلام رغم أهميته إلا أنه يظل إنشائيًا تمامًا، يستخدم كلمة السياسة فقط، لكن دون الغوص فى عمق السياسة وتبعاتها، ودون أن ينظر إلى الوجه الشرير فى الأمر وهو الأهم والأخطر هنا.
فإذا أردت أن تتحدث عن الجانب السياسى فى الحج، فلا يمكن أن تبتعد عن منطق الصراع الذى تلعب على أطرافه السياسة، فالصراع هو جوهر كل شىء، وبدون صراع لا يمكن أن تستقيم الحياة أبدًا.
من يسيطر على تنظيم الحج منذ ظهوره كفرض طالب به الله عز وجل إبراهيم الخليل هو من يملك قوة روحية تجعل المسلمين جميعًا يدينون له إن لم يكن بالولاء، فعلى الأقل بمحبة تستند إلى أنهم يخدمون بيت الله الحرام، وقد يكون هذا سببًا فى محبة المسلمين لمن يحكمون السعودية الآن.
يمكن أن تجد حالة من التزيد التى تعكس نوعًا من التطرف والتعصب، فهناك من يرى أن البيت الحرام لا بد أن يكون تحت يد نظام سنى، فى إشارة إلى استبعاد الشيعة تمامًا عن الأمر، وفى إشارة أخرى إلى قصر الأمر على العائلة السعودية، وهى إشارة مبطنة بالطبع، لكن هذا لا يمنع أن العائلة السعودية، التى تستمد كثيرًا من شرعيتها وقوتها من رعايتها للحجاج، تعمل بإخلاص وتفان من أجل إخراج المؤتمر السنوى للحج على أكمل وجه.
****
ستكون حسن النية تمامًا، وتقول إن الحج يعكس قوة المسلمين وتماسكهم، لكن ما رأيك إذا استخدمت العقل قليلًا، وأبديت قليلًا من التأمل.
ففى الحج جرت اجتماعات عديدة استطاع فيها الحجاج الإيرانيون أن يستقطبوا عددًا كبيرًا من المسلمين فى أنحاء العالم إلى المذهب الشيعى، ولم يكن هذا الاستقطاب بالأفكار فقط، ولكن كان بالمال أيضًا، وهنا فى مصر عاد حجاج كثيرون وهم يحملون معهم المذهب الشيعى، ومعه الكثير من المال، وكأنى بالحجاج الإيرانيين يتعاملون مع الحج على أنه مناسبة سياسية لنشر مذهبهم، وليس لأداء الفريضة فقط.
ستقول إنه من حقهم أن يفعلوا ما يشاءون، فطالما أنهم يعرضون فكرة دون أن يفرضوا مذهبهم على الناس بالقوة، فلا ضرر ولا ضرار، وهو كلام مقبول على المستوى النظرى، لأنهم واقعيًا يتربصون بموسم الحج كل عام، ولا ينسى أحد حالات الشغب الكثيرة التى وقف وراءها الحجاج الشيعة، وهو ما استدعى تدخلًا بالقوة، فقد عمد الإيرانيون فى أكثر من موسم إلى إفساد موسم الحجاج، لإظهار النظام السعودى عاجزًا عن حماية الحجاج.
ما الذى يريدونه من وراء ذلك؟
إنهم ببساطة يسعون إلى تدويل مسئولية الحج، فلا تكون المملكة العربية السعودية هى الراعية الوحيدة لموسم الحج، ولكن تشكل لجنة عليا من ممثلين من الدول الإسلامية، تكون مسئوليتها الأولى هى تنظيم موسم الحج.
وعندما تتأمل هذا الصراع ستكتشف بسهولة أنه ليس صراعا دينيا مذهبيا فى حقيقته، ولكنه صراع سياسى فى المقام الأول، وأعتقد أن كل المناوشات بين النظامين السعودى والإيرانى لا تخرج عن سياق الصراع على السيطرة والنفوذ على السلطة الروحية للمسلمين، فهما فى النهاية رأسا المذهبين السنى والشيعى، وكل منهما يريد أن يحمى ما لديه.
****
الحج أيضا كان ساحة لتنمو جماعة الإخوان المسلمين، ويشهد متابعو ملف الإخوان أن التنظيم الدولى للجماعة كان يحرص على عقد اجتماع سنوى فى الحج، ولأن المناسبة دينية فى الأساس، فلم يلتفت كثير من الدول إلى أن أعضاء وقيادات التنظيم كانوا يلتقون فى اجتماعات سياسية فى حرمة الحرم الشريف، وهو ما تنبهت له الأجهزة الأمنية فى مصر منذ سنوات طويلة، وكانت تمنع عددًا من قيادات الجماعة من السفر إلى الحاج، لأنها كانت تعرف أن الرحلة ليست دينية المقصود بها وجه الله وحده، ولكنها رحلة سياسية المقصود بها وجه التنظيم الدولى دون غيره.
لقد انتهكت الجماعات المتأسلمة حرمة البيت الحرام، أخفت فى ساحاته خططها ومؤامراتها على جموع المسلمين، ولا أحد يدرى هل كان قيادات الجماعة يتفقون على قتل المسلمين وخراب ديارهم وتشريدهم، وهم بالقرب من الكعبة الشريفة، أم أنهم كان يخجلون من أنفسهم، ويفعلون ذلك فى أماكن بعيدة عن أرض الحرم.
تستطيع أن تستبشع كل ما يفعله المتأسلمون من استغلال واضح للحج، يمكنك أن تستبعد أنهم يفعلون ذلك من الأساس، لكن هذا ما جرى، وما سوف يجرى، لأن هذه الجماعات تنطلق من أرضية أنها على الحق، وهو ما يجعلها تستبيح أى وكل شىء، بل لا يمنعها من ارتكاب الموبقات جميعا، لأنها تعتقد أنها تخدم دين الله، رغم أنها لا تخدم إلا نفسها.
****
يعرف العالم كله، أن اللحظة التى يجتمع فيها المسلمون فى مكان واحد وبزى واحد هى اللحظة الأقوى فى حياة المسلمين، وفى حياة دينهم أيضا، ولو كان فى أيديهم لأنهوا هذه اللحظة، وهو ما لا يجب أن تستبعده أيضا، فكل شىء جائز... ولا تستهين بما يروجون من أقاويل عن هدم الكعبة، فهناك من يعيشون على هذه الأرض ويحلمون بأن تهدم الكعبة بالفعل، لأنها لا تشكل رمزا دينيا فقط، ولكنها أيضا رمز سياسى، يمنح أصحابه القوة التى لا يدركون قيمتها ولا معناها، وهذه هى مصيبتهم الكبرى.