عندما هزت تسريبات «ويكيليكس» العالم فى عام ٢٠١٠، لم يكن اسم أدريان لامو معروفا لدى الكثيرين، حتى فى الدوائر الضيقة المختصة بنظم التأمين المعلوماتي، لكن سرعان ما انتشر الاسم بوصفه أحد أبرز قراصنة المعلومات فى العالم، فاعتبره البعض «ثالث هاكر عالميا»، ولقبه آخرون بـ«هاكر دون مأوي»، بسبب استخدامه لمقاهى الإنترنت، والأماكن العامة فى تنفيذ أعماله، ما صعب على أجهزة الأمن ضبطه.
ولد لامو، الأمريكى ذو الأصول الكولومبية، فى عام ١٩٨١، وهو يصنف ضمن قائمة «هاكرز القبعة الرمادية»، الذين يعملون عشوائيا، فهم يساندون الخير أحيانا، ويخربون مثل الشياطين فى أحيان أخرى، وبدأ العالم يعرفه تدريجيا عندما اخترق الموقع الإلكترونى لصحيفة «نيويورك تايمز»، وأضاف اسمه إلى قاعدة بياناته، كما اخترق الموقعين الإلكترونيين لشركتى «ياهو ومايكروسوفت».
ونجح لامو فى البقاء بعيدا عن عيون مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي، الذى ظل يبحث عنه لفترة طويلة، حتى تم اعتقاله لأول مرة فى عام ٢٠٠٣، ثم لعب لامو دورا مهما فى الكشف عن طريقة تسريب الكثير من الملفات الأمريكية الحساسة، قبل نشرها على موقع «ويكيليكس»، عندما اعترف على صديقه برادلى مانينج، المجند فى صفوف الجيش الأمريكي، والمسئول عن تسريب مئات الآلاف من تلك الوثائق.
كان مانينج، البالغ من العمر ٢٣ عاما، قد انضم إلى قوات المشاة الأمريكية فى عام ٢٠٠٧، قبل أن يخدم داخل قاعدة عسكرية تبعد نحو ٦٠ كيلومترا عن العاصمة العراقية بغداد، فى يناير ٢٠١٠، وتمكن عن طريق قدراته الفائقة فى مجال اختراق أنظمة المعلومات، من شغل منصب مهم فى تحليل المعلومات العسكرية، ما سمح له بالحصول على مئات الآلاف من الوثائق الحساسة.
وبعد اكتشاف فضيحة «ويكيليكس»، التى هزت عرش الدبلوماسية الأمريكية، نشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية تحقيقا حول كيفية تسريب ٢٥٠ ألف وثيقة خاصة بالحكومة الأمريكية، وكشفت فيه عن دور الجندى الأمريكى برادلى مانينج فى الحصول على الوثائق، حيث سمح له عمله فى وحدة الاستعلامات التابعة للجيش الأمريكى بالعراق، فى دخول شبكتين معلوماتيتين مؤمنتين، يستعملهما العسكريون والدبلوماسيون الأمريكيون فى كل أنحاء العالم.
وجاءت فكرة تخاطب مانينج ولامو، بعد قراءة الأول لسلسلة مقالات نشرتها مجلة «واير» حول هاكرز كاليفورنيا الشهير أدريان لامو، الذى لمع اسمه فى أوساط القرصنة المعلوماتية بعد اختراق عدة مؤسسات حكومية، وعندما علم الجندى أن لامو دفع مبلغا من المال إلى موقع ويكيليكس على سبيل تشجيعه لنشر الوثائق المهمة، شعر بالارتياح، وقرر أن يكشف السر له.
وقال الجندى لصديقه إن عملية تسريب الوثائق كانت سهلة للغاية، لأنه كان يذهب إلى العمل ومعه قرص مدمج عليه الموسيقى التى كان يسمعها، ثم يخزن عليه الوثائق، أثناء تحريك شفتيه مع الموسيقي، بينما كان يهرب الملفات، دون أن يشك فيه أحد، وأبلغه فى إحدى الرسائل بأن هيلارى كلينتون، وزير الخارجية وقتها، والآلاف من الدبلوماسيين حول العالم، سيصابون بنوبة قلبية عندما يستيقظون ليجدوا كامل أرشيفهم السرى أصبح متاحا لجميع الناس، وأشار إلى أن تلك المعلومات هى ملك لكل الناس، لذلك أرسلها إلى الهاكر السابق، والناشط فى مجال حرية تداول المعلومات، جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيليكس، وهو صديق لامو.
واستمر مانينج ولامو فى تبادل الرسائل الإلكترونية على مدى خمسة أيام، فى الفترة بين ٢١ و٢٥ مايو ٢٠١٠، وأظهرت هذه الرسائل مدى السهولة التى استطاع من خلالها الجندى تسريب مئات الآلاف من الوثائق إلى «ويكيليكس»، حيث قال فى إحدى رسائله إلى لامو، إنه أعطى مؤسس «ويكيليكس» المجنون صاحب الشعر الأبيض، تسجيلى فيديو، أحدهما لهجوم طائرة الأباتشى الأمريكية على صحفيين يعملون مع وكالة «رويترز» للأنباء، ووثائق تتعلق بمعتقل جوانتانامو، والحرب على العراق، بالإضافة لـ٢٦٠ ألف برقية دبلوماسية فائقة السرية.
وسأل مانينج صديقه لامو فى إحدى الرسائل، «هل تريد أن تعرف لماذا قررت اتخاذ مثل هذا القرار الحاسم ومراسلة ويكيليكس وتزويدهم بالمعلومات؟ اسمع يا صديقي، ذات يوم أوقفت الشرطة العراقية ١٥ متمرداً، ووصلتنى الأوامر بالتحقيق معهم، وعندما اطلعت على حيثيات الأمر، وجدت أنهم أعدوا تقريراً عنوانه إلى أين يذهب المال؟ يستنكرون فيه فساد الحكومة العراقية، وعندما توجهت إلى قيادتى العليا لأخبرها، طلبوا منى أن أسكت، وأقدم المساعدة للشرطة العراقية لتنفيذ عمليات مداهمة أخرى».
وأضاف مانينج «بعد ذلك، وجدت أننى أعمل مع أناس لا أتفق معهم فى الرأي، وفيما يفعلون، وأننى بكل بساطة أطبق ما يريدونه بكل نشاط، لمجرد أننى أعمل فى هذا النظام»، ورد لامو على صديقه قائلا «لماذا لا تستفيد من هذه المعلومات المهمة بالحصول على مال من ويكيليكس»، فشرح له الجندى وجهة نظره قائلا «هذه المعلومات من حق جميع الناس، لذلك فأنا أسربها لأنهم يحق لهم أن يعرفوها، وأعتقد أننى لست جاسوسا قذرا يجمع معلومات ليضر الناس، وإنما أسعى لأن أفيدهم».
وفى نهاية الحوار قال لامو لصديقه «أعتقد أن ويكيليكس ستكون غطاء مثالياً للجواسيس أمثالك، وسينشرون ما سيكون مفيداً لهم»، وبعد هذه المحادثة لم يتردد فى الاتصال بالحكومة الأمريكية، حيث التقى عملاء فى مكتب التحقيقات الفيدرالية فى أحد مقاهى ستار بوكس بمنطقة كار ميكائيل بكاليفورنيا، وهو مقهى يقع بجانب منزل والديه، وأدلى لهم بكل ما لديه من معلومات عن الجندي، الذى لم يكن حكيما عندما اختار أن يبوح بأسراره إلى لامو، فباعه، وأرسل نسخة من الحوارات بينهما إلى مجلة «وايرد» التى نشرت مقتطفات منها.
وكشفت وثائق مانينج عالم الدبلوماسية السرى للقوة العظمى الوحيدة فى العالم، وطريقة تعاملها مع حلفائها وأعدائها، وكيف تفاوضهم وتضغط عليهم فى بعض الأحيان، حيث يصل الأمر إلى أن تنعت الزعماء بأبغض الأوصاف، وكل ذلك خلف الكواليس، لأن الدبلوماسيين الأمريكيين اعتقدوا أن أسرارهم الخاصة لن يطلِّع عليها غير أمريكى فى يوم من الأيام.
وبعد القبض على مانينج، نقل سرا إلى سجن عسكرى فى الكويت، ومنه إلى كوانتيكو فى سجن منعزل، لكنه استطاع أن يعطى خالته كلمة السر الخاصة به، لدخول حسابه على موقع «فيس بوك»، وكتابة الرسالة التالية «بعضكم ربما يكون قد سمع عن توقيفى وسجنى لأننى أفصحت عن معلومات عسكرية سرية، ولمن أراد الاطلاع فليذهب إلى موقع (Collateralmurder .com).