سألت العسكرى الذى جاء يأخذنى:
ما الأمر؟ فقال إنه لا يعرف والأمر فقط أن يأخذنى معه للقسم، فكان علىّ أن أمشى معه وأنا لا أعرف تهمتى، ولما كنت وحيدا فى المنزل ساعتها طلبت من جارى وهو فى سنى أن يأتى معى للقسم ربما أحتاجه، وهناك قال الضابط إننى لم أستخرج بطاقة شخصية رغم أنى بلغت سن السادسة عشرة من شهور ولا بد من دفع غرامة قدرها جنيهان وأن أستخرج بطاقة بعد ذلك، فطلبت منه أن يرسل معى العسكرى لأعطيه النقود فرفض
طلبت أن أتصل تليفونيا بأى شخص ليرسل لى الغرامة فرفض فأرسلت جارى ليأتى بالنقود من أبيه، فوافق لكنه أمر فى الحال أن أدخل فى تخشيبة القسم بدلا من أن أجلس بجواره لمدة نصف الساعة حتى تأتى النقود.
وهكذا وجدت نفسى بين اللصوص والمجرمين والشحاذين وغيرهم.. وكانت التخشيبة يحيطها سور حديدى يليها ممر يؤدى إلى حجرة الحجز فوقفت به ولكنى كنت أرى جزءا من حجرة الحجز وأسمع بعض الحوار من داخله، وسمعت أحد المحتجزين يسأل آخر «هو الحرامى بيسرق ليه؟» ثم يرد بنفسه على سؤاله فسجلت بعض الحوار فى ذهنى كى أنسج مسرحية حول هذا الموقف، وبالفعل عندما جاء جارى بالنقود وأطلق سراحى عدت لأجلس فورا لكتابة مسرحية قصيرة عما سجلته فى ذهنى لم يبق منها إلا ورقتان وضاع الباقى، وكانت عن شاب يحتجز بالتخشيبة وهناك يتعلم بعض ما يجرى فى الحياة ويغير رأيه فى الدنيا عندما يلتقى بالشخصيات من حوله، وأفكر الآن هل كان تعنت الضابط معى بلا مبرر لاستفزازه من اسمي؟ ربما وبعد مرورى بهذه التجربة بفترة شعرت بالامتنان له لأن الضابط الهمام أدخلنى فى هذه التجربة، التى حفزتنى لكتابة أول مسرحية حقيقية من تأليفى وبالطبع لم أفكر أبدا أنها يمكن أن تعرض فى مسرح وبواسطة ممثلين ولو هواة، لكنها كانت تمرينا وتدريبا على كتابة المسرح.
وبعد عامين أى عندما بلغت التاسعة عشرة كنت قد انتهيت من كتابة مسرحية طويلة من ثلاثة فصول فى إطار فرعونى وتحديت نفسى فكتبتها باللغة الفصحى باسم «السؤال» وإن كانت أحداث المسرحية لا تستند إلى أى وقائع تاريخية.
وقرأت عدة مراجع عن التاريخ الفرعونى لأكتبها وأختار زمن كتابتها وأسماء شخصياتها، والمسرحية التي ما زالت عندى كاملة تعالج موضوعا عصريا لكنى لم أرجع إليها ثانية حتى هذه اللحظة.
لكن أحد الأصدقاء قرأها مؤخرا وأثنى عليها وما زلت أراها بمثابة اختبار فرضته على نفسى وبجانب القصص القصيرة التى كنت أدون أفكارها أحيانا وأقدم على كتابتها أحيانا أخرى وأحاول نشرها أو تقديمها إلى المسابقات، انطلقت أيضا أدون أفكار مسرحيات كثيرة أكتبها أحيانا وأتوقف عند الفكرة فقط أو أكتب بعضها ثم أتركها، وبدأت أتابع المسرح بشكل عام سواء حضور عروضه أو مشاهدتها فى التليفزيون أكثر من مرة، هل كان الرقيب حاضرا معى فى هذه المحاولات؟ لا أظن هذا لأنى لم أطمح وقتها أن ترى مسرحياتى النور فى هذه السن المبكرة ولكنه كان رابضا فى جزء من عقلى يعمل لوحده وربما هذا هو ما كان يجعلنى أتجنب المباشرة والخطب المنبرية التى كانت تميز مسرح الستينيات الذى يتماشى مع الأجواء السياسية وقتها ويبشر بالتغيير الذى كان قد حدث من قبل أن يصل إلى المسرح ليكمل برنامج الدعاية السياسية «وأغلبها من وجهة نظر الدولة والكتاب الذين يكتبون فى صحفها ومجلاتها والقائمين عليها».
كان أبى قد مُنع من الكتابة فى صحيفة «الجمهورية» ثم فى جريدة «التعاون» وكانت الدولة تشرف على كلتيهما رغم أنه لم يمس الثورة المباركة بأى سوء بل كان يتجنب الكتابة السياسية «وقد أنصفه القضاء بعد ذلك وفاز بالبراءة لأن الفصل كان تعسفيا ولا مبرر له لكن بعد وفاة ناصر بالطبع»!
كان من بين ما حضرته فى منزل أبى ممثلة بدينة نصف معروفة كانت تتردد علينا.
عرفت فيما بعد أنها كانت تعمل مع الأمن، وهو نفس الأمر الذى رأيته فى منزل أمى فيما بعد وكانت هى أيضا ممثلة مسرحية وسينمائية وتكتب التقارير للأمن.
ولم أعرف هذا إلا فيما بعد، ولكنى لم أهتم فى المرتين على الإطلاق بل إن الثانية مثلت فى أحد مسلسلاتى التليفزيونية وبترشيح مني!