بعد أيام ظهرت لى أمى وحكت أنها كانت غاضبة من حزبها وحزب شيوعى آخر، ربما هو الحزب المصري، لأن محاولات ضم الحزبين باءت بالفشل، وشعرت بالضيق من كليهما فامتنعت عن الاجتماعات فى الفترة الأخيرة، وانتهز الفرصة أحد الرفاق لأن يرقى زوجته لمسئولة أعلى فى مكان أمى التى تغيبت كأنها اعتزلت، ولما كانت السلطة الناصرية الرحيمة قد توقفت فى اعتقال النساء عند حد المسئولة الأعلى فقد اعتقلت زوجة الرفيق وأصبحت هى الضحية مكان أمي!
كنا فى أوائل عام ٦٠ وبعد أن انتقلت إلى السنة الثانية الثانوية وبعد أن ضاعت منى حبيبتى تنبهت لسخافة المرحلة التى أعيشها. وزادت سخافة عندما دخلت القسم العلمى الذى لم أحبه أبدا. وفى هذه الفترة قرأت كثيرا من القصص والروايات. وسجلت قبل نهاية هذه الفترة فى أجندتى (تمنيت لو أكون كاتبا كبيرا فى الكبر، وأخذت أسعى لهذا.
ترى هل انتصرت وحققت الأمنية أو انتصر القدر وغير مأساته. لأننى عشت أعشق الكتابة وتصورت أن ليس هناك شيء يستطيع أن ينتصر على رغبتي).. وهكذا قضيت السنين التالية فى التعرف على الحياة وقراءة جوركى وتشيكوف ونجيب محفوظ والشرقاوى مصطفى محمود وأى كتب تقع فى يدى حتى التى لم أستوعبها جيدا، وتقدمت إلى نادى القصة بقصتين ولم تفوزا بشيء، وكانت النتيجة تزويغا دائما من المدرسة أغلب الوقت مع هجر أغلب كتب المدرسة، كأنها تمثل رقيبا عليّ، تضطرنى لحفظها وإعادة كتابتها على ورق الإجابة بينما كانت الكتابة هى التى أجد نفسى فيها، وطبعا كان دخولى القسم العلمى هو خطأ منى لأنى سمعت نصائح الآخرين ولا ذنب للمدرسة فيه، وأصبح من هواياتى أن نمثل فى سطح منزل أولاد عمى وندعو الأسرة والمعارف لمشاهدتنا. ثم بدأنا فى تكوين فرقة مسرحية باسم (فرقة التمثيل للأشبال) فى سطح أولاد عمي. ولاحظ أبى شغفنا بالتمثيل فجعل من نفسه مشرفا علينا وكتب لنا مسرحية قال إنه كتبها وهو صغير وأعاد الآن كتابتها باسم (دافنينه سوا) وتحمس عمى ليأخذ لنا مسرحا لنعرض فيه وهو مسرح أوبرا ملك، وكانت مطربة شهيرة قبل أن تنطفئ أضواء شهرتها (وأظن أنه ما زال موجودا) فى عماد الدين لكنه كان فارغا تماما ومحجوزا عليه، وتسكن هى إحدى حجراته وكان عمى يعرفها، ففرحنا ورحنا نحفظ أدوارها وأسند أبى لى شخصية تدعى الشيخ ويكا، ولكن المسرحية لم تعجبني فقد شعرت أنها كتبت بسذاجة لتناسب عمرنا! ورأيت أننا أوعى وأكثر نضجا من ذلك وهنا سجلت قرب نهاية أجندتى (أريد أن أكتب مسرحية)، وبعدها بأيام قرأت (فن كتابة المسرحية) تأليف لايوس أجري، والحق أنى قرأت بعضه فقط وقد وقع فى يدى بالصدفة وكان لا بد أن أعيده لابن خالتى ليعيده إلى صاحبه.
ثم وسوس لى شيطان الكتابة أن أعيد كتابة مسرحية أبى بشكل أكثر نضجا وبحبكة أفضل بل أكثر كوميديا مما يظن هو.! وبالفعل توقفت عن كتابة رواية كنت قد بدأتها ووصلت فيها لأكثر من مائة صفحة وعكفت بسرعة على إعادة كتابة مسرحية أبى متحررا من الإطار الذى تضمنها، خاصة وقد بدأ التليفزيون قبلها بعام فى تصوير وعرض مسرحيات لإسماعيل يس ويوسف وهبى والريحانى بطولة ممثلين آخرين من فرقته.
لكن أبى قرأها ثم نحاها جانبا دون تعليق غير ضحكة ساخرة وبالتالى خضعت لرغبته وهكذا لعب معى دور الرقيب للمرة الثانية (أو أنا الذى لعبت دور الرقيب معه!) وللأسف لم يعد لى نصى وخجلت أن أطلبه فضاع منى وكان ذلك فى أغسطس من عام ٦١ وعرضنا المسرحية ليلة واحدة. وفشلت فى التمثيل فشلا تاما فقد كنت أراقب نفسى وأنا أمثل.
ودخلت مرة وقد أسندت لحيتى المستعارة فوق جبهتى! هل كانت مسرحيتى أفضل من مسرحية أبي؟ لا أستطيع الحكم الآن. لكن هذا حفزنى على كتابة المسرحيات وسجلت (بدأت فى كتابة مسرحية).
وعندما جاء ديسمبر، أى بعد شهور، كنت قد بدأت الكتابة فى مسرحية باسم (المتوازي) وأظن أنى لم أكمل كتابتها فقد ضاعت منى ولا أذكر شيئا منها. لكن فى العام التالى كتبت مسرحية أخرى وبقى منها صفحتان لا غير. المهم أن الحافز على كتابتها كان بسبب واقعة بدت غريبة لي، فقد جاء عسكرى شرطة وسأل عن المدعو لينين فتحى عبدالله الرملي.
وكنت أنا من فتحت له الباب. فقال تعال معى ولما سألته مندهشا عن السبب قال إنه لا يعلم ولكنى مطلوب فى قسم السيدة زينب الذى نتبع له، ولم يكن بعيدا! وأسقط فى يدى فلم يكن فى البيت شخص غيري.