الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

العاصمة بين الترييف والفوضى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما يحدث في القاهرة وبها يستوجب قراءة مدققة، إذ لا يمكن تصور أنها هي نفسها عاصمة الأربعينيات والستينيات من القرن المنصرم، التي كانت تعبر عن التدرج الاجتماعي والاقتصادي بل والتاريخي أيضا، تعكس بناياتها وأحيائها كل ألوان الطيف في تناغم وقبول بنكهة مصرية خاصة، تتنقل بينها وكأنك توقع التاريخ على المدينة، القاهرة الفاطمية بمساجدها التي احتمت بالعمارة المصرية القديمة وأخذت عنها الفخامة والأعمدة ومسلاتها التي صارت مآذن، وتحصنت ببوابات تحمي مداخلها من باب الفتوح إلى باب النصر إلى باب زويلة على النسق الروماني الأشهر، ولف سور مجرى العيون الذي تفاعل مع النيل، واحتضن مصر القديمة بكنائسها التي احتمت بباطن الأرض تنحت فيها هياكلها، وتظل شاهدة على بطش الرومان وملاحقتهم وتعقبهم، وعندما تنتقل إلى وسطها لا بد أن تتوقف أمام إبداع القاهرة الخديوية، والتي تعد متحفا مفتوحا، والتي تم تخطيطها على نسق العاصمة الفرنسية باريس، وما زالت رغم ما نالها من إهمال وتشويه تحمل ملامح الجمال والفن والإبداع، وعلى ضفاف النيل ينتصب بشموخ تماثيل أسود كوبري قصر النيل البرونزية التي نُحتت خصيصا بإيطاليا، وغير بعيد يصافحك حي “,”بولاق“,” الميناء التجاري والصناعي العتيد عندما كان النيل شريان النقل الرئيسي، وقبل ما يزيد عن مائة عام (1911) تتمدد القاهرة لتحول تخومها الصحراوية إلى ضاحية مصر الجديدة الأرستقراطية- حينها- على يد البارون البلجيكي إدوارد جوزيف إمبان على مساحة 25 كليومتر مربعا، ومن مصر القديمة إلى مصر الجديدة تبقى الروح المصرية الودودة والقبول بالتعدد والتنوع قبل أن تغشانا رياح التصحر العاتية التي أثارتها نوازع الانقطاع المعرفي والثقافي التي سعت لاختطاف مصر من سياقها الحضاري والارتداد بها إلى ما قبل الدولة، تمهيدا لإعادة رسم خريطة المنطقة استهلالاً بقلبها مصر.
والقراءة المتأنية عبر النصف قرن الأخير تكشف أن موجات الهجرة من الريف للعاصمة كانت تتم لأسباب متعددة، ولم تكن تخضع لقواعد تحفظ التوازن بين القرية والمدينة وبينها وبين العاصمة، خاصة عندما صارت القرية والريف مناطق طرد بعد أن سقطت من حسابات التنمية، وبعد أن تحولت من الإنتاج إلى أنماط الاستهلاك التي خضعت لمفاعيل الهجرة المؤقتة للخليج وتداعياتها، وإغراءات تجريف الأراضي الزراعية والبناء عليها، وكان أن تم تحزيم العاصمة بسياج من العشوائيات تحت ضغط الهجرة الريفية، التي جاءت بأنماط معيشية فرضت نفسها على واقع المدينة، دعمها التراجع الثقافي وشيوع ثقافات الرأسمالية الطفيلية الاستهلاكية، وانهزام التصنيع والإنتاج أمام هجوم الاستيراد غير المخطط والذي لا يخدم رؤية التنمية وخططها التي تجمدت أو استكمال مشروع التصنيع الذي توقف مع تبني سياسات الانفتاح الذي وصفه الكاتب المصري أحمد بهاء الدين “,”انفتاح السداح مداح“,”، ولم يكن التراجع الصناعي الإنتاجي عفو الخاطر، بل كان حلقة في سلسلة ممتدة غير منقطعة الصلة بما حدث من انقلابات على مدنية الدولة ثم اختطافها بعد 25 يناير.
الملاحظة الواضحة ما حدث بعد 25 يناير من احتلال شوارع وأرصفة شوارع العاصمة في كل أحيائها وميادينها يستوي في هذا الأحياء الشعبية والأحياء المتميزة، وميدان رمسيس وميدان المطرية وميدان طلعت حرب، ناهيك عن شوارع وسط المدينة التي صارت خارج السيطرة، وخاصمت القانون والذوق والنظام، وصارت نموذجا لا يبارى في العشوائية.
لم يكن المحتلون من الباعة الجائلين ولا من البلطجية معتادي الإجرام، بل كان طوفان من الشباب يعرضون بضائع تتجاوز الملايين بما يتجاوز قدراتهم المالية بما لا يقاس، وخضع أصحاب المحال لابتزازهم وفرضهم للأمر الواقع في غياب تام للأمن ورجاله، واستمر الحال بل وتفاقم حتى اللحظة.
هل ما أصاب العاصمة من فوضى كان بسبب ارتباكات ما بعد الانفجار الشعبي والغضب من إخفاقات النظام المباركي؟ لو كان هذا صحيحا فلماذا استمر بعد وصول الإخوان للسلطة، وتمكنهم المتسارع من مفاصل الدولة؟ ولماذا الإصرار على تعميق غياب القانون والارتداد للعرف وفرض الإتاوات لتسيير الأعمال؟ ومَن الجهة أو الأشخاص الذين يمدون جيش شباب وسط العاصمة وميادينها بهذا الكم الهائل من البضاعة، ومَن هم أطراف تنظيم هذه الأسواق العشوائية بإحكام يضمن دوران حركة الإمداد والدفع بانتظام؟ إنها سياسة فرض ثقافة الفوضى على الشارع، وتغييب القانون عن عمد، وهو العمود الفقري للدولة المدنية، وحين ترتبك الدولة في غياب القانون تظهر أنساق بديلة تبعث للحياة فتوات الأحياء وشيوخ القبائل والمهن، ونخطو خطوات واسعة لحياة ما قبل الدولة؛ حيث الأمير والولي والسلطان، ونقترب من حلم الخلافة في غير التفات لاختلاف الزمن والمناخ.
خضعت العاصمة لهجومين متوازيين هجوم الترييف الذي أزاح قيمها ولم يستطع أن يقدم الجانب الإيجابي فيها، وأفرغ الريف من توازناته ولم يستطع صبغها بحياة المدينة فصارا كليهما مسخ لا الأولى بقيت مدينة ولا الثانية استمرت قرية، كان الهجوم الثاني الفوضى، والتي تستمد دوافعها من توجه الفوضى التي اسمتها وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كونداليزا رايس الفوضى الخلاقة (!!) وخططت لها الإدارة الأمريكية على مدى سنوات ممتدة، ولاقت قبولاً من جماعات منقطعة الصلة بالحضارة والتطور وهي تتبنى مشروعا يسعى للانقلاب على منجزات العصر وعلى مدنية الدولة.
نحن بحاجة إلى إنقاذ العاصمة من هجومي الترييف والفوضى وإعادة الوجه الحضاري لها حتى نوصل ما انقطع مع تطورها التاريخي والإبداعي بوضع خطط عملية قابلة للتنفيذ للتخلص من العشوائيات التي احتلت أطرافها من خلال إحلال حقيقي لمدن جديدة لا تخاطب أو تستهدف الأثرياء، وإعادة الاعتبار للقانون عنوان هيبة الدولة، ومواجهة الفساد بصوره المختلفة داخل الدولاب الحكومي والأمني ومنظومة الإدارة المحلية الموطن الملكي لشبكات المصالح والمفاسد، لكن هل يمكن للأيدي المرتعشة أن تتصدى لهذه المهمة الفاصلة؟ وهل يمكن للتقليديين تحقيق حلم الثورة؟