فى الأدبيات الأكاديمية التى أضعها أمام طلابى فى مدرجات الجامعة، لا بد أن يكون الصحفى دقيقًا وموضوعيًا ومحايدًا، يبحث عن الحقيقة، ليعرضها على قارئه، الذى هو غاية الغايات لمهنة ارتضى أبناؤها أن يطلقوا عليها «مهنة البحث عن المتاعب».
يخرج الدارس للإعلام للحياة العملية ليجد من يعترض طريقه، ويقول لهش: «انس كل ما تعلمته فى الكلية، فما سمعته شىء، وما ستجده على الأرض شىء آخر تماما»، يستسلم الصحفيون الجدد لما يقال لهم، وتصبح هذه عقيدتهم التى لا يقبلون فيها تشكيكًا ولا تأويلًا.
ما لا يعرفه من يرددون هذا الكلام الفارغ، أنه لا فرق على الإطلاق بين ما يدرسه الطلاب فى أكاديميات الإعلام، وما يمارسونه على الأرض، الفارق الوحيد، أن ما يسمعونه فى كلية الإعلام قيم مجردة تمامًا، أما ما يقومون به فى عملهم الصحفى فهو قيم تتفاعل فى سياق خاص بها.
إننا نطالب دارسينا أن يتحروا الدقة فيما ينقلونه من أخبار، وأن يكونوا موضوعيين ومحايدين، لا يلونون الأخبار، ولا ينشرون شيئا لم يحدث، فهل هناك جريدة على وجه الأرض تقول للصحفى الذى يعمل فيها: اكذب ولا تكن موضوعيا أو محايدا؟ هل هناك جريدة على وجه الأرض تقول لصحفييها: خالفوا ضمائركم وانشروا ما تعتقدون أنه ليس حقًا، لأننا لن ننشر إلا ما نريد؟
الحقيقة أنه لا توجد صحيفة تطلب من صحفى يعمل بها أن يكذب، لكن هناك صحفيًا يكذب ويبالغ فى الكذب، ولذلك أعتقد أننى كنت دقيقا عندما قلت: لا توجد صحف تكذب، ولكن هناك صحفيين يكذبون.
لا يستطيع أى صحفى على وجه الأرض أن يقول الحقيقة المطلقة، لأنه بالفعل لا توجد حقيقة مطلقة، كل ما يحدث على الأرض يمكن أن نراه من زاويا مختلفة، لكل منا زاويته التى يرى منها، وعندما تنقل ما رأيته، فلا يستطيع أحد أن يزايد عليك، ويقول إنك لم تنقل الحقيقة، لكنه يمكن أن يقول إنك لم تنقل الحقيقة من زاويته هو.
كنت أتحدث فى ندوة بواحدة من أكاديميات الإعلام الحديثة، وقفت طالبة متحمسة، قالت بغضب إنها لا تريد أن تعمل فى الإعلام، لأنه هو المسئول عن كل المصائب التى تعانى منها مصر، فلا يوجد إعلامى واحد يراعى ضميره، وبدأت فى سرد الأخبار التى تعترض عليها، وشعرت أنها تميل إلى ما يردده الإخوان المسلمون فى مواقعهم وعلى صفحات التواصل الاجتماعى.
التقطت الخيط منها، قلت لها: فى الواقع أنتى لستى محقة على الإطلاق فى غضبك، لأن الإعلامى الذى يتحدث فى برنامجه، أو يكتب مقالة، وتشعرين أنه يخالف ضميره، فى الحقيقة هو لا يفعل ذلك، ولكنه يخالف ضميرك أنت، ولذلك تغضبين منه بشدة.
يطالع القارئ جريدته، أو يتابع المشاهد برنامجه، ويرغب فى أن يسمع ما يتفق مع مواقفه وأفكاره وآرائه ويخدم مصالحه أيضا، فإذا ما استمع لما يريد، فالإعلام فى هذه الحالة موضوعى ومحايد ويقول الحقيقة، وإذا لم يسمع ما ينتظر تعامل مع الإعلام على أنه كاذب، واتهم الإعلامى أنه يخالف ضميره، ويخدم مصالح الآخرين، ولا يتحرى الصدق فيما ينشره على الناس.
إننا فى الواقع أمام مهنة فى محنة، وبالمناسبة المحنة ليست جديدة على الإطلاق، فقد ولدت الصحافة ومحنتها معها، ومكمن الأزمة أن الإعلام الذى هو مجرد أداة ولد ومعه شهادة بأنه لا يمكن أن يكون مستقلا، فهناك من ينفق عليه، ويريد أن يحقق مصالحه من خلاله.
سيقولون لك مخادعين إن الإعلام يمكن أن يكون مستقلا إذا استطاع تحقيق أرباح من عمله، ساعتها لن تستطيع السلطة أن تسيطر عليه أو تجعله تابعا لها يحقق لها مصالحها ويدارى على سوءاتها ويحارب لها معاركها.
ورغم أن هذا منطق يمكن أن يصمد قليلًا فى المناقشات الأكاديمية العقيمة، إلا أنه فى الواقع لا يمكن أن يصمد ولو لدقائق، فالإعلام حتى لو ربح من عمله بعيدًا عن إنفاق السلطة عليه، فإنه سيربح من جيوب المعلنين الذين هم من رجال أعمال ومستثمرين يرتبطون بعلاقات بيزنس مع السلطة، التى ستجعلهم يحجمون عن دعم هذه الصحف، إذا ما جنحت إلى استقلالها بعيدًا عن وجهة نظر النظام.
عندما أصدرت صحيفة الغد المعبرة عن حزب أيمن نور - وكان وقتها فى السجن وافترقنا بمجرد خروجه - كان أن قدم لنا رجل أعمال شهير إعلانًا بكامل الصفحة الأخيرة، كان رجل الاعمال يرتبط بعلاقة صداقة مع أيمن وأحب أن يجامل صديقه بإعلان فى جريدته الوليدة.
نزل العدد إلى السوق، فقامت الدنيا على رأس رجل الأعمال، الذى وجد نفسه مضطرا إلى أن ينشر إعلانًا فى جريدة الأهرام ينفى فيه أن يكون قدم إعلانًا إلى جريدة الغد، وأن الجريدة هى التى سارعت إلى نشر الإعلان مجاملة منها له، أخلى الرجل ساحته أمام النظام الذى لم تكن تعجبه الجريدة، لكنه فى الواقع كان قد دفع ثمن الإعلان كاملًا، وكنت شاهدًا على ذلك، ثم تعامل معنا بعد ذلك وكأنه لا يعرفنا.
حتى الصحف التى استطاعت أن توازن بين مصروفاتها وإيراداتها لا تصمد كثيرا، ولا بد من يد تدعم، واليد التى تدعم لا تفعل ذلك لوجه الله أبدا.
الأيادى التى تمتد للإنفاق على الإعلام كثيرة، السلطة بما تمثله من قوة اقتصادية ضخمة، ممثلة فى وزارتها وشركاتها ومؤسساتها، ورجال الأعمال بما يمتلكون من مؤسسات وشركات ومصانع، وقوى الضغط الاجتماعى التى تملك هى الأخرى ما تستطيع أن تقدمه للصحف، فهذه أيضًا تملك ما يمكنها من لعب دور وممارسة ضغط.
قدر الصحافة الأحمق، أن هذه الأيادى الثلاث متشابكة ومرتبطة، ولن تستطيع منها فكاكا حتى لو أردت ذلك وقررته، ودعنى أقول لك إن بينها تحالفًا لا ينفصم أبدًا، وحتى لو رأيت بعض الخلافات بينها، فلا تصدقه، فالمصالح تتصالح، وليس مسموحًا للإعلام، الذى هو أداة، أن يخرج عن الخط، أو يتجاوز حدود اللعبة، لأن هذا يعنى هلاكه.
تملك كل صحيفة خطا سياسيا واضحا، فى إطاره لا تقدم أكاذيب، ولكنها تعرض ما ترى أنه حقيقة، وحتى لو رآها الآخرون أنها عكس ذلك، فهى ملزمة بما لديها، المصيبة أنك ترى صحفيين مختلفين تماما مع الخط السياسى لصحيفة ما، لكنهم يعملون، بل ويجتهدون فى تقديم ما يدعم خطها، هؤلاء هم الكاذبون الذين يعتقدون أنهم يخدعون الآخرين من أجل لقمة العيش، رغم أنهم فعليًا لا يخدعون إلا أنفسهم.
من الطبيعى أن تتباين الصحف، وأن تختلف خطوطها السياسية، أن تتضارب وتتعارك، ومن المنطقى أن تخدم الصحف من يقفون خلفها، فلا أحد يدفع من جيبه إلا من أجل أن يرى ما يعتقد أنه صحيح، وما يخدم مصالحه، ويحافظ على بقائه، لكن غير الطبيعى أن يكون هناك صحفيون يتعاملون مع الأمر كله على أنه وظيفة، ولقمة عيش، يتنازلون عن قناعاتهم من أجل تحقيقها.
لن أتجاهل الأزمات الكثيرة التى تحيط بالإعلام، فالمنظومة التشريعية التى نتعامل معها عقابية فى أصلها، انتقامية فى فلسفتها، ترغب السلطة من خلالها فى تأديب الصحفيين والتضييق عليهم، إذا كانت اختياراتهم مخالفة لها، والمجتمع نفسه كاره للإعلام، لأن تكوينه الثقافى أحادى الاتجاه، فأنت تقول ما يخالفنى، فأنت ضدى، ولا بد أن أقاومك، وإن فشلت فى حصارك، قمت بتشويهك، وفى لحظة تجد نفسك كإعلامى مسئولًا عن كل خطايا الكون مرة واحدة، ولن أتجاهل حالة التربص العنيفة التى تبديها قوى المجتمع المختلفة لتقلم أظافر الإعلام، ولن أخدع نفسى وأقول إن الآخرين يتعاملون مع الإعلام على أنه قوى ومؤثر، وقادر على التغيير بمفرده، هم ينظرون إليه على أنه مجرد أداة لا أكثر ولا أقل.
لكنى إلى جوار هذا سأضع الحقيقة التى أرى أنها مؤلمة، وهى أننا نحن الصحفيين السبب فى النكبة التى تعانى منها المهنة كلها، كثيرون لا يختارون الأرض التى يقفون عليها، كثيرون يعملون فى صحف وقنوات رغم عدم قناعتهم بخطها السياسى والفكرى، ورغم أن هذا من المفروض أن يخلف صراعا نفسيا رهيبا، إلا أنه فى الواقع يخلق حالة من التشويه النفسى والإنسانى يصعب التخلص منها، فيتحول كثيرون منا إلى كتلة من الأمراض النفسية تسير على الأرض.
هل أقول أن إصلاح المهنة يبدأ منا نحن، لا أحب دور الواعظ، لكن يبدو أن هذا هو الطريق الوحيد، اختر طريقًا، واعمل ما تعتقد أنه صواب، ودافع عن موقفك، وكن مستعدًا لأن تدفع الثمن... ينصلح حالك وحال مهنتك... هذا إذا كان قد تبقى منها شىء يمكن إصلاحه.