لا يخفي الرئيس عبدالفتاح السيسي، إعجابه الشديد بشخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وطريقته في إدارة البلاد.
ومن هنا جاءت زيارات السيسي المتكررة إلى موسكو، تأكيدًا علي رغبة الشراكة الدائمة، التي يسعى إليها مع روسيا الاتحادية، تحت قيادة بوتين.
الحقيقة لم يأت إعجاب السيسي ببوتين من فراغ، فالرجلين بينهما تشابه كبير في الشخصية، ومشتركات عديدة في الرؤية والتكوين، فخلفية الرجلين العسكرية والاستخباراتية واحدة، كذلك طريقة الوصول إلى السلطة التي جاءت في توقيتٍ، تتعرض فيه بلادهما لخطة مُدبرة، استهدفت تدمير مقدراتهما، وضرب استقرارهما في مقتل.
تجربة بوتين في الحكم يحاول السيسي استلهامها بكل قوة.
تلك التجربة التي أنقذت جزء مهم من العالم، من هطر التقسيم، لم تأت من فراغ، فقد تدرج "بوتين"، في العديد من المناصب، خلال مشواره العملي، حيث تم تكليفه عقب تخرجه من كلية الحقوق جامعة لينينجراد عام ١٩٧٥، بالعمل في لجنة أمن الدولة KGB، بالاتحاد السوفيتي سابقًا، كما تم إرساله عام 1984م إلى أكاديمية الراية الحمراء التابعة لـ KGB ومدرسة المخابرات الأجنبية، ثم تم تعيينه للعمل بجمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة في الفترة ما بين 1985- 1990م.
وفي بداية عام 1990م، تولى منصب مساعد رئيس جامعة لينينجراد للشئون الخارجية، حتى أصبح مستشارًا لرئيس مجلس مدينة لينينجراد، ثم رئيسًا للجنة العلاقات الاقتصادية، في بلدية سانت بيترسبرج، كما كان النائب الأول لرئيس حكومة مدينة سانت بيترسبرج عام 1994م.
استكمل "فلاديمير بوتين" مشواره مع العمل السياسي، وأصبح أول نائب لرئيس الإدارة المسئول عن السياسات الإقليمية في مايو 1998م، ثم صدر قرار بتعيينه مديرًا لجهاز الأمن الفيدرالي، وبينما كان لا يزال يرأس جهاز الأمن الفيدرالي، تم تعيينه عام 1999م سكرتيرًا لمجلس أمن الدولة، حتى قام الرئيس الروسي بتعيينه رئيسًا للوزراء يوم 9 أغسطس 1999م.
وعقب استقالة "يلتسين"، يوم 31 ديسمبر، من عام 1999م، أصبح بوتين رئيسًا لروسيا بالإنابة، ليتم تنصيبه رئيسًا رسميًا للاتحاد الروسي يوم 8 مايو عام 2000م، وفقًا للانتخابات الرئاسية، التي أجريت يوم 26 مارس عام 2000م، كما أعيد انتخابه في 14 مارس 2004م، لولاية ثانية بحصوله على أكثر من 70 %، من إجمالي الأصوات، والتي انتهت في مايو 2008م.
ظل "فلاديمير"، يتولى منصب رئيس وزراء روسيا، منذ 8 مايو عام 2008م، حتى أعيد انتخابه رئيسًا للاتحاد الروسي يوم 7 مارس 2012م، عقب حصوله على 64 % من الأصوات.
دولة مفككة وسيطرة لرجال الأعمال:
جاء بوتين إلي السلطة عام ٢٠٠٠م، والدولة في حالة تفكك كامل، ساهم في ذلك المؤامرات التي حِيكت من قبل الغرب، طوال عقد كامل من الزمان، بدأ من أواخر الثمانينيات، وحتي بداية الألفية الثانية، مستغلاً مرض وضعف الرئيس الأسبق "بوريس يلتسين"، الذي شاع الفساد في أواخر عهده، بشكل غير مسبوق، وسيطر رجال الأعمال الفاسدين علي كل مفاصل الدولة.
حاول "بوتين" في بداية عهده استمالة هؤلاء الأشخاص، فاجتمع بهم في مكتبه، بالكرملين، وعقد معهم اتفاقًا، يقضي بمنحهم عفوًا شاملًا عن كل الجرائم التي ارتكبوها في السابق، علي أن يلتزموا بعدة شروط، كان أهمها عدم التدخل أو العمل بالسياسة، كان برتين يعلم جيدًا أن خلط المال بالسياسة يضر البلاد ضررًا شديدًا، وحذر من ذلك في تلك الجلسة التاريخية، وللأمانة فقد التزم البعض بتعليمات واشتراطات بوتين إلا أن البعض الآخر لم يلتزم، كان منهم امبراطور الإعلام الأشهر في روسيا، ميخائيل خودوركوفسكي رئيس شركة يوكوس البترولية العملاقة.
حظي ميخائيل خودوركوفسكي، بمكانة عالية في وسط رجال الأعمال الروس، وقد عرف عنه اعتماده للأساليب الأكثر انحطاطًا لتحقيق مراميه. وقد مكنته علاقاته الاقتصادية والسياسية الهائلة، وسيطرته علي عدد من وسائل الإعلام الخاصة، من إجراء حملة دعائية ضخمة، جعلت منه صورة "الرجل الذهبي" اللامع، والأكثر رواجًا في المجتمع الروسي.
لكن بالمقابل، لم يكن هو، ولا أمثاله من صنعوا تلك الثروات، كل ما فعلوه أنهم نهبوا خيرات روسيا، وهربوها إلي الخارج حتي باتت تُشكل ثروة طائلة، استخدموها في استرضاء عملاء واقتصاديي مبنى "وول ستريت"، ومبنى البورصة اللندنية بـ"سيتي"، واستغلوا في ذلك كل الثغرات القانونية للوصول إلى أغراضهم.
طموحات ميخائيل خودوركوفسكي، كانت أكبر من قدراته، وتأثيره بكثير، مثل بعض أبناء جلدتنا هنا في مصر، فقد رغب في الإمساك بزمام القيادة السياسية للبلاد.
لم يلتزم خودوركوفسكي، بأي شرط من الشروط التي اتفق عليها مع بوتين، فكان لا بد من الحساب، دفع ميخائيل، ثمن جرائمه كاملة، فقُبض عليه وتم سجنه عشر سنوات، ليفرج عنه بعد ذلك لأسباب إنسانية.
تعامل بوتين، مع كل رجال الأعمال الذين تحكموا في روسيا لعقود طويلة، فأشعلوا فيها الفساد، وسرقوا مقدراته بنفس الأسلوب، الذي اتبعه مع خودوركوفسكي، فهرب البعض منهم إلي الخارج، والتزم البعض الخط الوطني للدولة الروسية.
إعلام وطني:
صادر بوتين كل المؤسسات الإعلامية الخاصة برجال الأعمال الفاسدين الذين هربوا من البلاد، خشية الملاحقة، وحولها إلي جهاز إعلامي وطني تمتلك فيه الدولة ٥١٪ من الأسهم، ليعود الإعلام معبرًا عن روسيا الوطن، وليس روسيا رجال الأعمال.
كانت تجربته في مواجهة الإرهاب درسًا لكل الدول التي تحاول مواجهته فقد أقسم بوتين عندما ذهب ليتفقد قوات مكافحة الإرهاب في الشيشان علي مطاردة الإرهابيين حتي "المرحاض"، وكان هذا تعبير بوتين، الذي عناه جيدًا، فقد طاردهم حتي في أحلامهم، حتي قضى علي أكبر موجة إرهابية، واجهت دولة علي الإطلاق، وخرج من تلك المواجهة منتصرًا، حيث ارتفعت شعبيته بشكلٍ كبيرٍ، وأخذ تفويضًا شعبيًا بإعادة بناء الدولة من جديد، وفق نفس الرؤية التي واجه بها الإرهاب، والتي تميزت بالحسم والقوة والإرادة.
تلك تجربة الرجل التي سنتحدث عنها تفصيلًا في مقالات قادمة، والتي أزعم أن الرئيس عبدالفتاح السيسي مقتنع بجدارتها في مواجهة المشكلات المصرية، فهل يسير السيسي علي خطى بوتين؟!.. هذا ما سوف نكشف عنه في مقالات قادمة.