لا أحد فى هذا البلد يريد أن يعترف أنه أخطأ، وزير التربية والتعليم، محب الرافعى، سخر من طالبة الصفر التى نسينا اسمها وأصبحنا ننعتها بهذه الصفة المهينة، والتى لا يمكن أن يقبلها عقل ولا منطق، فتاريخها التعليمى يشير إلى أنها لا يمكن أن تحصل على صفر فى كل المواد، وعندما واجهه أحدهم بأن النيابة حققت وأن هناك تزويرًا حدث فى أوراقها، قال بكل ببساطة: سنعتذر لها.
هكذا ببساطة، بعد أن عاشت الطالبة وأسرتها فى جحيم من الظلم واليأس والحيرة وقلة الحيلة، ينهى الوزير المهزلة بكلمة واحدة، وكأن مصيبة لم تقع، وكأننا لسنا أمام ملمح من انهيار المجتمع الذى نعيش فيه.
يمكنك أن تتعامل مع ما جرى مع الطالبة مريم ملاك على أنه خطأ عابر، يمكن أن نتجاوزه، ويعود كل شىء بعده إلى مجراه الطبيعى، لكن بالنسبة لى فما جرى هو الكارثة الكبرى التى يجب أن يتوقف أمامها المجتمع طويلا، لا لنتعاطف مع الطالبة المسكينة ونشد على يديها ونعتذر لها، ولكن لنحاسب أنفسنا، فما أحوجنا لأن نقف أمام مرآة صادقة لتقول لنا: كم نحن فاسدون.
ما جرى فى أوراق مريم ملاك دليل على انهيار تام، واسمحوا لى أن أعود بالذاكرة إلى سنوات مضت، تحديدًا إلى العام الوحيد الذى درسته فى كلية الطب، قبل أن أغادرها إلى كلية الإعلام، كانت تدرس معنا طالبة، يتحدث عنها الجميع بأنها من المفروض أن تكون الأولى على الجمهورية، لكن خطأ وقع فى تصحيح أوراقها.
سألتها مباشرة عن الحكاية، فقالت إنها حصلت على مجموع أقل مما تستحق، وإنها واثقة أنها كان من المفروض أن تحصل على الدرجات النهائية فى كل المواد، وطلبت من والدها القيادى اليسارى فى محافظة الدقهلية أن يتقدم بتظلم، أو يرفع قضية على وزارة التعليم كى تتمكن من الحصول على حقها، لكن والدها رفض بإصرار كامل.
كان ما قاله القيادى اليسارى لابنته دالًا وكاشفًا جدًا، أكد لها أن الثانوية العامة، بنظام امتحاناتها وتصحيحها وتنسيقها، هى الشىء الوحيد الذى لم يصل إليه الفساد فى مصر حتى الآن، ويخشى لو تقدم بتظلم أو رفع قضية على الوزارة أن يكون هناك فساد ما وصل إلى الثانوية العامة، ولو وقع شىء من هذا يبقى لازم نقول على البلد كله «يا رحمن يا رحيم»، وهو فى الحقيقة لا يريد أن يتعجل ذلك.
للأسف الشديد ما كان يخشاه القيادى اليسارى منذ أكثر من عشرين عامًا تحقق الآن، وصل الفساد بفجر إلى الثانوية العامة، ولا أدرى هل نقول على البلد كله «يا رحمن يا رحيم»، أم نتمهل قليلًا، عسى أن يكون هناك أمل، أى أمل فى أى شىء، رغم أن الواقع من حولنا، والذى يتبدى فى وجوه مسئولين، لا يبشر بأى خير.
الأزمة الحقيقية التى نعانى منها فيما أعتقد هى أننا لا نعترف بأننا أخطأنا، وإذا اعترفنا، وهذا نادر جدا، فلا نقبل أن نتحمل مسئولية ما جرى، وهذا هو أول الطريق للهلاك.
ذات مرة سألنى والدى فى جلسة من جلسات الصفاء التى طالت بيننا: «تفتكر ليه مفيش حمار بينتحر؟ وقبل أن أتعجب من سؤاله، قال: لأنه ببساطة مبيشمش نفسه، لو فيه حمار شم نفسه والمكان اللى عايش فيه كان أكيد انتحر.
كلنا فى النهاية هذا الحمار، لا نشم فسادنا، ولا نعترف به، ولا نريد أن يحاسبنا أحد على تقصيرنا، ولذلك لا تنتظروا أن ينصلح أى شىء... بل انتظروا الكارثة التى لا تبقى ولا تذر.