في زيارتي الأولى لموسكو عام ١٩٨٦، أي قبل أكثر من ربع قرن، كنت شاهدًا على بدايات انهيار الحكم الشيوعي، الذي امتد لأكثر من سبعين عامًا.
يقيني أن السقوط لم يكن نابعًا من خلل في النظرية، فالرأسمالية لم تسقط رغم كل عيوبها، بل استطاعت أن تتجاوز أزماتها بالانفتاح على حركة التغيير والتعديل والتطوير المستمر، الأزمة- من وجهة نظري- كانت تكمن في الترهل والعجز عن مواجهة التحديات والأزمات بكل ما تتطلبه من تجديد ومرونة، وقدرة على الاقتحام الجاد لمواطن الخلل المستفحل.
لم تكن مصر عندئذ بعيدة عن خلل كهذا، وكانت الفرصة قائمة للإصلاح والإفادة من تجارب الآخرين، لكن النظام المصري لم يتعظ، واستسلم لكل أمراض الشيخوخة، وهو ما أفضى به وبنا إلى ما حدث في 25 يناير 2011 وما بعدها.
عدتُ من موسكو عام ١٩٨٨محملاً بحقيبة ملأى بدواوين شعر لتشيخوف وجوركي وعدد من روائع تولستوي وديستوفيسكي الروائية، لم تتسع الحقيبة آنذاك لمجلدات رأس المال لكارل ماركس ومؤلفات لينين وتروتسكي المتعددة حول تجربة الثورة البلشفية وتبعاتها، تلك التي كنت قد قرأتها طوال فترة إقامتي هناك.
تابعت سقوط الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، وما استتبعها من فوضى واضطراب طالا كل شيء، وصولاً إلى استقرار تم دفع ثمنه غاليًا، وهو الاستقرار الذي تتهيأ له مصر الآن، وهي توشك على التعافي واستعادة الإيقاع المنضبط للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ولعل ما حدث من "ربيع عربي" وما استتبعه من تداعيات يشبه إلى حد كبير ما حدث في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي من قبل، التشابه المهم يمكن ملاحظته في صمود وتعافي روسيا الاتحادية سريعا وصمودها أمام خطط إشاعة الفوضى وإضرام النيران في التاريخ والواقع والمستقبل، في محاولة لمحو تلك الدولة العريقة من الوجود عبر تقزيمها وتقسيم ما تبقى منها إلى دويلات صغيرة، نفس الأمر الذي كان من المخطط القيام به في مصر، وفي الحالتين أنقذ الجيش كلا الدولتين من خطر محدق وأعاد الاستقرار إلى ربوعهما.
تلك المشابهة دفعتني للتفكير في مغزى ومعنى تلك الزيارات المتكررة من الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى موسكو، وتلك اللقاءات المتعددة بين الرجلين، اللذين ينتميان إلى مدرسة واحدة، هي المؤسسة العسكرية، والتي بلغت خمسة لقاءات حتى الآن، أربعة منها في روسيا، كذلك الاستقبال الأسطوري والحافل الذي استَقْبَلَ به بوتين والشعب الروسي الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، سواء في الزيارة الأولى التي تم خلالها كسر كل قواعد بروتوكول استقبال الرؤساء أو في هذه الزيارة.
حدسي يقول إن الزعيمين يدركان أن بلديهما تعرضتا لمؤامرة حقيقية، توحدت فيها الجهة المخططة والطريقة والهدف، الأمر الذي يضع أعباء كبيرة على الطرفين، ويطرح تحديات مهمة لعل أخطرها وقف استمرار المخطط الهادف إلى تقسيم منطقة الشرق الأوسط، وإعادة رسم خرائطها لصالح قوى غربية استعمارية وغاشمة.
إن العلاقات القديمة بين البلدين والتي تمتد إلى عام ١٩٤٣، والتي تعمقت طوال فترة حكم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ١٩٥٤-١٩٧١، لتمثل ركيزة حقيقية قابلة للتطوير وصولا إلى رؤى وتحالفات محددة وواضحة ضد الإرهاب العالمي المدعوم إقليميا ودوليا، وضد خطط إشاعة الفوضى وإعادة رسم خرائط مناطق عديدة في العالم.
صحيح أن أولويات روسيا الاتحادية تتمثل في الاهتمام بدول الطوق أو دول الجوار، تلك التي تحاول نفس القوى التي حاولت تمزيق منطقة الشرق الأوسط أن تتلاعب بمستقبلها وواقعها، مثل أوكرانيا، وصحيح أيضا أن منطقة الشرق الأوسط كانت وما زالت تحتل المركز الثاني في اهتمامات الاستراتيجية الروسية بعد دول الجوار، لكن الصحيح أيضًا أن ما حدث ويحدث على أرض الواقع سواء لدينا في الشرق الأوسط أو في بعض دول أوروبا الشرقية مثل أوكرانيا يشير بكل وضوح إلى ضرورة إعادة صياغة السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية بشكل يطور اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط والملفات الملتهبة بها، بالتنسيق الكامل مع مصر باعتبارها مفتاح التحرك والحل لكل مشكلات المنطقة، وأظن أن هذا هو ما يسعى إليه الرجلين، السيسي وبوتين، في المرحلة المقبلة، سواء بدأ ذلك بتعاون اقتصادي رفيع المستوى أو بتعاون عسكري متطور، المهم هو الوصول إلى رؤى موحدة واستراتيجيات مشتركة.