واصلت عمل جرائد الحائط وصادفني مدرس لغة عربية مختلفا. الأستاذ حامد نجيب وهو رسام أيضا يرسم مغامرات فى مجلة «باسل» للأطفال ويرسم الكاريكاتير.
وأعطانى مفكرة صغيرة وقلم حبر لفوزى بأحسن مجلة لعام ٥٧ وفى الحال وجدتنى أكتب فيها «١٤/١/٥٨ الموافق الثلاثاء أخذت هذه المفكرة مع قلم حبر ثمين» وفورا قررت أن أخصصها لكتابة مذكراتي ولم أكن قد تجاوزت الثانية عشرة إلا بشهور.
ومن هنا بدأت دقة تفاصيل ما أكتبه فقد بدأت تأريخ ما أفعله وما يحدث لى بل عدت بالذاكرة إلى وقائع قبل ذلك بسنوات حتى لا أنساها. علاوة على ذلك خواطرى وأفكارى وانطباعاتى وما زلت أحتفظ بهذه المفكرة حتى اليوم ومن هذه الأجندة وغيرها فيما بعد أكتب هذه الحلقات من وقت لآخر حتى لحظة هذه السطور!
وكنت قد كتبت فى أجندتى سطرين بشفرة ساذجة ما ترجمته «أحب جارتنا وسام» ثم بعد أيام «وعرفت أنها تحبني». ولست أذكر الآن كيف أحسست أن أبى قرأ ما أكتبه ولكنه آلمنى ذلك منه وأصبحت أدرك حقيقة معنى الرقابة وكم هى قاسية وفكرت أن أبى الذى يكره الرقابة على أفكاره السياسية التى تغضب السلطة أعطى لنفسه حق الاطلاع على أفكارى وخواطرى البريئة والتى لا تغضب أحدا. ولكنى لم أسكت فسجلت بها عامدا ثلاثة أسطر عله يقرأها ويفهم أننى أقصده فكتبت «الإنسان دائما يخاف أن يقرأ أحد مذكراته لأنها تكشف نفسيته وتلقى ضوءا على أفكاره وتخيلاته. إن الإنسان يحب أن يكون غامضا أو لأنه لا يثق بنفسه كثيرا أو فى كلامه ولكن هذه الأسباب فقط لا تبرر أن يقرأ أحد ما يكتبه».
تعود أبى أن يسند لى بعض الأعمال خلال إجازة المدرسة فيدفعنى للوقوف بمكتبة له فى الشارع المجاور لنا ثم فى مكتبه القريب من منزلنا كسكرتير وكنت أتضايق لحرمانى من الاستمتاع بالإجازة الصيفية ثم أستأجر مطبعة متواضعة بشارع البيدق قرب العتبة. فألحقنى فى بداية صيف ٥٩ للعمل بها مع أربعة عمال من التاسعة ٩ صباحا حتى السابعة براتب ٥ قروش وضمنه المواصلات قرشين يوميا. والواقع أنه لم يطلب منى سوى القيام بدور رقيب على العاملين ولكنى خجلت من لعب هذا الدور. خاصة عندما ذقته باطلاعه على أجندتي.
ثم وقع أهم حادث فى حياتى وقتها، فقد كنت أعود متأخرا من المطبعة فلا أكاد ألتقى بوسام بنت الجيران. ويوما رأيتها تنظر لى من أعلى السطح وأنا ألعب الكرة مع الجيران فراحت تلقى على بقطع من الملبس فتركت اللعب وصعدت وكانت وحدها لتخبرنى أنهم سيتركون المنزل بعد ثلاثة أيام. ظننت أنها تمزح كعادتها ثم نادى الأهل عليها فهرولت وسألتها عن مكان السكن الجديد فقالت إنها لم تعرف بعد. مرت الأيام الثلاثة ولم أرها خلالها وكأن ذلك مقصودا «ربما من أهلها» وفى اليوم الأخير وكان يوم جمعة إجازتى من المطبعة. رأيتها تقف مع أبيها وحدها أمام باب المنزل وعربة كبيرة تنقل عفشهم مرتدية نظارة سوداء لتخفى دموعها وكان أبناء الجيران يلعبون حولنا وأنا أصطنع الابتسام لإخفاء مشاعري.
وفى هذه اللحظة طلبنى أبى لأمضى معه للقهوة الشهيرة التى تقع أمام الباب الخلفى لأوبرا القاهرة بالعتبة. وعبثا حاولت الرفض ولكنه أصر، وهناك أعطانى ورقا وطلب منى أن أكتب قصة كل جمعة مقابل ٥ قروش، شعرت بالغيظ فكتبت بسرعة شديدة قصة «الحذاء الجدي» التى نشرت فى «صباح الخير» من أعوام اختصارا للوقت وطلبت المغادرة فورا لألحق بحبيبتي. لكنى وصلت لأول الشارع ورأيته فارغا من العربة الكبيرة فقد رحلوا.
وما زلت أحفظ يوم رحيلها فى ١٩ أغسطس ٥٩ لأنه كان اليوم التالى لعيد ميلادي، واسودت الدنيا فى عينى ولم أغفر لأبى ما فعله ولم أدرك أنه قصد خيرا بتحريضى على كتابة القصة ظنا منه أن النقود ستغرينى وأن الجلوس أمامه سيجبرنى على الكتابة وغاب عنه أن الكتابة لا تكن بالأمر فهو أكثر قسوة من أن تحذف الرقابة بعض ما تكتبه، أو حتى كله.
وبعد أن هربت من أبى اكتشف أنى كتبت نفس القصة القديمة وعندئذ فتر اهتمامه بتشجيعى على الكتابة! ولم يكن يعلم أنى حتى وقتها كنت قد كتبت عشر قصص قصيرة دون أوامر أو إغراءات منه بل كنت قد سجلت فى أجندتى أنى سأكتب رواية طويلة!