ثمة ما يدفعنى للربط- للمرة العاشرة- بين مواقف الولايات المتحدة الأمريكية وتنظيم داعش الإرهابى، إذ يظهر الكثير من الخطوات والمواقف الأمريكية وكأنه ترتيب على عملية يقوم بها «داعش» أو هو على أرضيتها أو أمام خلفيتها، وعادة ما يكون ذلك النوع من الخطوات الأمريكية مصمما عن قصد وتدبر، يعنى واشنطن ترسم المقدمات لداعش لتصل إلى النتائج التي تريدها!
ومن أمثلة ذلك النوع من الروابط، ما أعلنته الولايات المتحدة الأمريكية على لسان رئيس الأركان مارتن ديمبسى، وعرضت له صحيفة نيويورك تايمز من ضرورة سحب قوات حفظ السلام الدولية من على الحدود بين مصر وإسرائيل، لأن وضعها لم يعد آمنًا بعد تعدد هجمات الهاون من جانب الإرهابيين الدواعش، وأخطرها- من وجهة نظر الأمريكان- كان قصف مطار الجورة بالعريش الذي تستخدمه قوات حفظ السلام.
وأهمية ذلك التوجه الأمريكى الذي يكمن في أن بقاء تلك القوات (٤٠٠ جندى وضابط تم نشرهم طبقًا لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام ١٩٧٩) ليس أمرا يتعلق بأمن إسرائيل إزاء مصر، لأن القاهرة أثبتت أنه لا خطر منها على أمن جيرانها، ولكن سحب قوات حفظ السلام هو خطر داهم على أمن مصر، وبالذات في ظل الحرب المصرية على الإرهاب في سيناء، الأمر الذي سيعطى المتطرفين التكفيريين فرصا للحركة في تلك المنطقة لم تكن لهم من قبل، كما أنها- ربما- ستمنح إسرائيل فرصًا لشن غارات عبر حدود السماوات المصرية على مجموعات من داعش إذا قامت بعمليات ضد تل أبيب، وهو الاحتمال الذي بات حاضرا بقوة بعد اندلاع نزاعات قوية في غزة بين داعش وحماس (حليف إسرائيل منذ ظهر)، وهو السيناريو المفزع الذي سيضع مصر السيسى في حرج كبير، لأنها ستجد نفسها بين احتمالين، فإما أن تنسق مع إسرائيل وطيرانها لمواجهة داعش عبر حدودنا، وعبر حدود غزة، وإما أن تفعل إسرائيل ذلك دون مشورتنا، فنظهر وكأننا عاجزون أمامها عن حماية سيادتنا، وصحيح أن وجود قوات حفظ السلام لم يك رادعًا ماديًا يحمى أمن مصر، ولكنه كان رادعًا رمزيًا ووجودًا أمريكيًا ضامنًا لعدم تغول أو توغل الطيران الإسرائيلى في سمائنا بحجة مواجهة داعش، وإظهارنا كأننا طرف لا يريد المشاركة في دفع عدوان التنظيم الإرهابى المتوحش.
وصحيح- كذلك- أن الجيش المصرى يسيطر على الأرض في سيناء على نحو كامل، إلا أن حملة كبيرة من التصريحات والمقالات الصحفية الغربية نشطت في ترديد بعض دعايات زائفة، تقول إن الجيش فقد السيطرة على سيناء، وأن الإرهاب تمدد إلى الداخل والدلتا.. وهذه الحملة تكشف غرضها الخبيث الآن، حين بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في إشاعة مثل تلك الأنباء التي دفعتنى للربط بين هجوم داعش على مطار الجورة وطرح فكرة انسحاب قوات حفظ السلام، وبين حملة بعض الصحف الأجنبية القاصدة نشر بعض المعلومات الكاذبة عن أن مصر فقدت سيطرتها على سيناء.
ومما يزيد من ثقل ورجحان هذا الجزء من الموجة الثانية للمؤامرة على مصر، مرافقته لنبأ دخول داعش عصر اختطاف الأجانب في مصر وذبحهم للمرة الأولى، باقترافها جريمة اختطاف المهندس الكرواتى توماسلاف سلوبك الذي كان يعمل في شركة فرنسية تشتغل في الصحراء الغربية ثم ذبحه.
إذ إن ذلك العمل الدنيء يتناغم بقوة مع الشائعات الأمريكية التي تتحدث عن تعرض قوات حفظ السلام الدولية لأخطار جسام بعد الهجوم على مطار الجورة.
وبالطبع، لن تجد أمريكا أو محللوها صعوبة في بناء عدد من النظريات تؤكد الصلة بين داعش الذين قتلوا توماسلاف وداعش الذين يمارسون إرهابهم في سيناء، وقد يستندون في ذلك إلى قرائن خيالية ساذجة منها أن خاطفى توماسلاف طلبوا من السلطات المصرية الإفراج عن نساء الإخوان المحبوسات خلال ٤٨ ساعة وبعد انقضاء المهلة ذبحوه، وهذا يتفق مع الرواية الرائجة جدًا في الإعلام الغربى، عن أن مداهمات الشرطة على امتداد سنوات للأهالي في سيناء، وبالذات النساء والبنات كانت سببا لاستشراء الإرهاب.
كما سيربطون ذبح توماسلاف بالتهديدات السابقة ضد الأجانب من جانب الإسلاميين، وهو الأمر الذي يدعمه الاختيار الدقيق لشركة (فرنسية) يختطفون أحد موظفيها، فمواجهة فرنسا ضد الإرهاب شرسة، وهى لعبت دورًا في تدمير ليبيا (زمن حكم ساركوزى وقت اجتياح نظام القذافى)، ومنها جاء الجاسوس برنارد ليفى الذي قاد عمليات ما يسمى بالربيع العربى، وهي كذلك بلد غربى أجنبى يعطى أمريكا حجة إضافية في باب ضرورة سحب قوات حفظ السلام، وإذا رأت مصر ضرورة وجودها، فسيكون ذلك بشروط سياسية جديدة غير ما تم الاتفاق عليه عام ١٩٧٩ (بمعاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية)، وربما يكون من تلك الشروط تواجد أجنبى على نفس المساحة التي استهدفتها أمريكا منذ سنوات لإقامة ما أسمته ظهير غزة!
ومن ناحية أخرى، فإن أمريكا هي من تجد صعوبة في الربط بين حادث اختطاف وذبح توماسلاف وحادث الفرافرة الشهير الذي وقع في الصحراء الغربية ضد أحد كمائن القوات المسلحة.
وربما ترافق ذلك إثارة لجو عاصف من الخوف في منطقة سيوة والفرافرة والساحل الشمالى (الذي أعلن الإرهابيون تهديدهم لأمنه عدة مرات من قبل)، إذ إن عددًا كبيرًا من سكان تلك المنطقة يعمل في تقديم الخدمات من مياه ووقود وتموين للشركات العاملة في جوف تلك الصحراء ولمسافة نحو أربعين كيلومترًا جنوبًا من مطروح.
التوالى والارتباط الشرطى بين (فعل) داعش سواء بالهجوم على الجورة أو خطف وذبح توماسلاف و(رد فعل) الولايات المتحدة الأمريكية عن سحب قوات حفظ السلام من سيناء.. يشي- قولًا واحدًا- بأن طرح فكرة (التدخل الدولي) في سيناء لحفظ الأمن سيظل واردا، وهو الأمر الذي يطالب به أعضاء جماعة الإخوان الإرهابيين علانية ودوليًا، وترفضه مصر على نحو قاطع، فضلًا عن عدم وجود أي حاجة إليه.
وهذه هي اللوحة الرئيسية- الآن- من مشهد الموجة الثانية للمؤامرة على مصر التي بدأت موجتها الأولى خلال عملية يناير ٢٠١١.