المشهد كان عبثيًّا تمامًا، صوت انفجار مدوٍّ، ادّعى الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعى- دون معلومات ولا تحقيق ولا تدقيق- أنه وقع فى منطقتهم، الصوت واحد، لكن الأماكن مختلفة، «أسرى» الفيس بوك اجتهدوا، قالوا التفجير فى الدقى والمهندسين ومدينة نصر وإمبابة والهرم والمريوطية وشبرا، وأبدع التليفزيون المصرى عندما كتب على شاشته البائسة: «عاجل.. سلسلة تفجيرات فى القاهرة...»، دون أن ينسب الخبر إلى مصدر أمنى أو حتى شهود عيان.
استخف البعض بما حدث، وتدخلت السخرية المصرية لتشترك مع الحدث، قال أحدهم: «لما أكون فى السعودية وعاوز أسمع صوت الانفجار أعمل إيه؟»، لم ينتبه أحد إلى رائحة الخوف التى سيطرت على المشهد، الجميع يتحدثون عن تفجير، ويتصورون أنه وقع على مقربة منهم، دون أن يجرؤ أحد على النزول أسفل منزله ليتأكد مما جرى، ولم تهدأ النفوس المضطربة إلا بعد الإعلان رسميًّا عن تفجير فى محيط مبنى الأمن الوطنى فى «شبرا الخيمة»، فبدأت وصلة التنظير السخيفة، والتحليلات الهزيلة، والسخريات السمجة.
فى الحقيقة، إن من قاموا بالتفجير كانوا يرغبون فى إعلان التحدّى، وكأنهم يقولون إن هذا هو استقبالنا الرسمى لقانون الإرهاب، أرادوا أن يقولوا إنهم موجودون فى قلب القاهرة، يستطيعون أن ينقلوا متفجرات ويتجوّلون بها، يتركونها فى المكان الذى يحددونه، وبعد قليل يقومون بتفجيرها بحرية تامّة، دون أن يعترض طريقهم أحد.
لكن، هل كان هذا هو الهدف الوحيد؟ أعتقد أن هذا كان الهامش فقط، أما المتن فيكمن فى صناعة حالة من الخوف، وإشاعة موجة من الرهبة، جعلك - وأنت المواطن الذى تحب الحرية- تلزم بيتك حتى لا تموت متفجرًا بطريقة عبثية، فما الذى يعنيه أن تموت لمجرد مرورك بالقرب من مكان ما، إلا أنّ من يقومون برعاية القتل خططوا لأن تموت بلا ثمن.
أنت بسلميّتك ورغبتك فى أن تحيا بلا مشاكل ولا أزمات هو الهدف الذى يعمل الجميع على اصطياده، كلهم يريدونك أن تكون خائفًا طوال الوقت، حتى تصبح أسيرًا لهم، للنظام حتى يحميك، ولمن يواجهون النظام حتى يؤكدوا لك أنك لست فى أمان ما لم تكن معهم.
هى حرب كبرى إذن، وليس عليك إلا أن تختار إلى أى جبهة ستنحاز، لا حياد ولا منطقة رمادية ولا مواقف وسط، ليس أمامك إلا أن تختار، لكن قبل أن تختار عليك أن تعلم أنك ستدفع ثمن اختيارك، فقد انقضى عصر الاختيارات المجانية.
لقد اخترت مبكرًا جدًّا أن أكون فى صف هذا الوطن، ضد من يريدون هدمه وتخريبه، ضد من يقتلون أبناءه طمعًا فى حكمه، فليس منطقيًّا أبدًا أن تقتلنى لأعترف بحقك فى أن تحكمنى بطريقة لا أريدها، وليس طبيعيًّا أبدًا أن تضع سكينك على رقبتى حتى أعترف بك، وليس إنسانيًّا أبدًا أن أبارك فتحك لمدينتى ويداك ملطخة بدمى.
ستقول ليس معنى أن أنحاز إلى الوطن أن أقف فى صف النظام، فله هناته وزلاته وأخطاؤك وخطاياه أيضًا، سأقول لك: أنا معك تمامًا، لكن ليس معنى ذلك أن تكون وحدك، من حقك أن تتحدث، أن تعترض، أن تواجه النظام بأخطائه، لكن دون أن تكون شوكة فى ظهره، أن تطعنه من حيث تريد أن تساعده، وعلى النظام -فى الوقت نفسه- بمؤسساته وأجهزته الأمنية المعلنة، وتلك التى تعمل فى الخفاء أن يقتنع أنها معركة الجميع، وليست معركته وحده، أن يعرف أنك تقف خلفه، ولا داعى لتخويفك وتهميشك وجعلك حائرًا لا تدرى ما يدور حولك.
أقول ذلك لأن كثيرين ممن أعلنوا وقوفهم التام والكامل إلى جوار النظام فى المعركة ضد الإرهاب، بدأوا فى الدخول تدريجيًّا إلى مساحة محايدة رمادية، يكتفون بالفرجة ودور المشاهد، لأنهم لا يعرفون لهم دورًا، يشعرون أنهم مجرد أدوات، كل طرف يرغب فى استخدامهم، دون أن يكون لهم الحق فى الكلام، مجرد الكلام الذى ينفِّسون به عن أنفسهم.
أعرف أن المعركة طويلة، وأعرف أن الشعب سينتصر فيها حتمًا، لكن لا تجعلوا الناس ينصرفون عنكم، يقفون متفرجين، وكأن الأمر لا يعنيهم... «أهلك يا تهلك».. هكذا علمتنا التجارب، فلا تتركونا تعلِّم علينا التجارب، اجعلوا من الناس شركاء لكم فى معركة هى الأخطر على مستقبل هذا الوطن، فلا نجاة إلا بهم، لا تتعاملوا معهم بتعالٍ، ولا تخسروهم بالتشكيك فيهم وتخويفهم وترهيبهم، فلن يكون ذلك فى مصلحة أحد... اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.