اختتمنا مقالنا السابق بإشارة إلى بحث علمي شرفت بالإشراف عليه تحت مظلة المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، وأشرت إلى اعتماد البحث فى تجميع مادته الميدانية على سلسلة من المقابلات المتعمقة بين نخبة من المهتمين بظاهرة خفوت الصوت الوسطى فى الدعوة الدينية، وارتفاع جاذبية الصوت المتطرف فى تلك الدعوة.
وقد تم تجميع المادة الرئيسية لهذا البحث قبيل ثورة يناير ٢٠١١ بعدة شهور؛ واستغرق تفريغ المقابلات وتحليلها وقتا طويلا نسبيا كانت فيه الأحداث تتلاحق، وحين انتهت هيئة البحث من كتابة تقريرها فى ٩ يونيو ٢٠١٣ كانت قد جرت فى النهر مياه كثيرة؛ حدثت ثورة يناير، وتنحى الرئيس السابق مبارك، وتولى المجلس العسكرى السلطة فى البلاد، وكان قد مضى فى يونيو ٢٠١٣ ما يقرب من العام على تولى مرشح حزب الحرية والعدالة الجناح السياسى لجماعة الإخوان المسلمين رئاسة الجمهورية؛ وأخذت العلاقات بين رئاسة الجمهورية وأجهزة الدولة والأحزاب المدنية وجماعة الإخوان المسلمين منحى ينذر بتغيير وشيك. وكتبت مقدمة للتقرير فى ذلك التاريخ اختتمتها متسائلا عن حقيقة رؤية المصريين لتيار الإسلام السياسى، وما «إذا كان اختيار الغالبية النسبية من المصريين لرئيس من جماعة الإخوان المسلمين يمكن أن يعد اقترابا من الوسطية التى كانت موضوعا لهذه الدراسة؟ أم تباعدا عنها؟ وتساءلت ترى من يملك الإجابة العلمية على مثل ذلك التساؤل دون الاقتصار على معالجات وتفسيرات نظرية قد تتلون برؤية أصحابها. ومضيت متسائلا: ترى هل يمكن أن نعود الآن من جديد لسؤال تلك النخبة مرة أخرى عن رؤيتها لما حدث؟ هل يمكن أن نلجأ ـ إلى جانب ذلك ـ إلى استطلاع رأى عينات من الجمهور؟ واختتمت مقدمتى بالقول «يبدو لنا أن أهمية الموضوع تتزايد وأنه على المشتغلين بالعلم الاجتماعى ألا يتوقفوا عن أداء واجبهم فى إجراء مزيد من الدراسات لاستكمال هذه البداية المتواضعة».
وتصورت آنذاك أن مهمتى العلمية قد انتهت، وأن التقرير فى سبيله للخروج إلى النور؛ ولكن يبدو أننى كنت متفائلا بأكثر مما يجب؛ فقد تعثر التقرير مرة أخرى لأسباب لا مجال للخوض فيها حاليا حتى أننى كدت أنساه.
ومضت شهور تقترب من العام وتجدد الأمل وطلب منى النظر نظرة أخيرة فى التقرير، وظننت للمرة الثانية أن التقرير فى سبيله للنشر، ووجدت نفسى ملتزما بتحديث المقدمة التى سبق كتابتها فى ٩ يونيو ٢٠١٣، فقد جرت فى النهر خلال ذلك العام أحداث جسام، فبعد أيام من كتابة تلك المقدمة انفجرت أحداث ٣٠ يونيو ثم ٣ يوليو وأطيح بحكم الدكتور محمد مرسى وجماعة الإخوان المسلمين؛ ولم يكن من بد إلي الإشارة لما حدث، فكتبت فى خاتمة المقدمة الجديدة بتاريخ ٥ مارس ٢٠١٤ : «لقد أجابت أحداث ٣٠ يونيو ثم ٣ يوليو ٢٠١٣ بشكل عملى على جانب من التساؤل حول دلالة اختيار الدكتور محمد مرسى ممثل حزب الحرية والعدالة الجناح السياسى لجماعة الإخوان المسلمين لرئاسة الجمهورية... ومازالت الأحداث تتوالى، وتبقى دراسة ما جرى ويجرى دراسة علمية أكاديمية. ترى هل ستتاح الفرصة من جديد للمتخصصين فى العلم الاجتماعى لتكرار ما أنجز فى هذا البحث؟ وهل يمكن فى المستقبل البحث عن آلية تكفل الإتاحة السريعة لمثل تلك البحوث العلمية للمتخصصين ولأصحاب القرار، بحيث لا تتحول إلى بحوث تاريخية تنتمى للماضى فى ظل عالم تتلاحق أحداثه؟» وبذلك اختتمت مقدمتى الأخيرة.
ولكن تعثر النشر مرة أخرى، وتحول البحث فى النهاية من كونه بحثا فى الحاضر القائم آنذاك واستشرافا للمستقبل؛ إلى بحث تجاوزته الأحداث وليس أمامه سوى أن يستقر هادئا حيث هو فى الأضابير؛ فليس ثمة فائدة حاليا من نشره كما هو إلا لاستخلاص العبر والدروس؛ وليس من سبيل للاستفادة منه لاستشراف مستقبل تتسارع أحداثه، إلا بأن تتاح نصوص المقابلات التى تتضمن رؤى تلك النخبة المتميزة من المفكرين والسياسيين ورجال الدين وعلماء الاجتماع والنفس والإعلاميين ورجال الشرطة لفريق جديد من الباحثين الشبان يعكفون عليها وربما يقارنونها بمقابلات جديدة يجرونها مستخلصين من المقارنات ما قد يلقى الضوء على المستقبل.
لعلنا لم نرهق القارئ كثيرا فى عرض تفاصيل رحلة شاقة لمجموعة من العلماء فى بحر مضطرب؛ ورغم أن تلك الرحلة لم تبلغ غايتها المرجوة؛ فلعل فى عرضها إبراء لذمة المتخصصين فى العلوم الإنسانية الذين يأخذ عليهم البعض تقصيرهم فى الالتحام بأدواتهم العلمية بمشاكل المجتمع الحقيقية.
لم تكن رحلتنا فى رحاب المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية هى المحاولة الوحيدة؛ بل سبقتها وعاصرتها محاولات أخرى لاستقصاء مصادر الفكر المتطرف فى مؤسساتنا التعليمية والدينية.
ولعل لحديثنا بقية.