«الحضارات لا تختفى فى الهواء.. تواجه لحظات انكسار.. لكنها لا تموت» رد سمعته من د. أحمد زويل حين سألته قبل أعوام عن رؤيته لمستقبل العراق. صدق هذه الحكمة تجلى فى مشاهد مضيئة بدأت تزين كل محافظات العراق منذ شهر وهى تمنح «قُبلة الحياة» للخروج من النفق المظلم.
ساحة التحرير التى تزينها جدارية جواد سليم - أحد أهم فنانى العراق التشكيليين- تحتضن كل جمعة الشعب العراقى بكل أطيافه ثائرا على الفساد السياسى والمالي.. ضد من تاجروا به وسرقوه باسم الدين وهم لا يدينون إلاّ بالتبعية لحكم ملالى إيران. لحظة الانفجار لم تكن مستحيلة وإن طال الانتظار خصوصا أن هناك عوامل تجعل هذا الحراك الشعبى الهائل أكثر تعقيدا وقوة من مظاهرات الاحتجاج التى حدثت سابقا فى ٢٥ فبراير ٢٠١١ والتى قمعتها ميليشيات نورى المالكى بكل الأسلحة بداية من متاجرتها كذبا باسم المرجعية الدينية زعما أن كل المشاركين هم إما من بقايا حزب البعث أو من تنظيم القاعدة ثم فرض حظر التجوال كى تعيق المتظاهرين من النزول واستخدام القوة المفرطة والقتل ضد المتظاهرين. حاليا رد فعل المرجعية كان موفقا حين انحازت إلى المتظاهرين وأعلنت دعمها لهم داعية الحكومة إلى الاستجابة لمطالب الشارع العراقى الذى انتقلت المظاهرات إلى كل محافظاته. أيضا رد فعل الجهات الأمنية كان رائعا فى تلاحمه مع المتظاهرين السلميين وبث رسائل الاطمئنان بأنه معهم كجزء من النسيج العراقي.
مطالب الثورة بإقصاء ومحاكمة كتل الفساد التى فرضت سيطرتها على الحياة السياسية وسعت إلى تمزيق النسيج الوطنى بإعلاء المحاصصة والطائفية باسم الدين لم تخل من محاولات اندساس بعض الوجوه والعناصر التى ثار الشعب عليها.. لذا لم يكن غريبا طرد بعض البرلمانيين من مظاهرات التحرير خصوصا أن أغلب الوجوه داخل البرلمان أصبحت مرفوضة بعدما خذلت الشعب الذى منحها صوته.. بل إن استمرار البرلمان أو حتى محاولة إجراء تعديلات هامشية داخله أصبح بحاجة إلى معجزة فى ظل تصعيد مطالب الشارع العراقي.. أيضا محاولة عناصر من الميليشيات التى ارتكبت ممارسات طائفية الاندساس بين متظاهرى التحرير أعادت-رغم فشلها- مخاوف سرقة هذه الثورة كما حدث فيما أطلق عليه «الربيع العربي» وخابت كل محاولاتهم لإفشال الوهج الثورى الرائع.
إشارات الاستنفار الصادرة عن الوعى الشعبى فى العراق بدت واضحة فى توحد المتظاهرين تحت العلم العراقى فصل الدين عن المظاهرات ومطالبها رفض «الغزل» الرخيص الذى بدأت الكتل السياسية ممارسته بهدف كسب ود المتظاهرين خصوصا أن أغلب هذه الكتل التى تضم وجوها خرج الشعب ضدها تحاول الآن تبرئة نفسها وإظهار التحيز إلى مطالب الشعب بل الاندساس بينهم.
الإجراءات الإصلاحية التى أقرها رئيس الوزراء حيدر العبادى تبدو خطوة أولى موفقة لكن مظاهر الاحتقان فى الشارع تؤكد أنه لن يصبر طويلا على تحول هذه الإجراءات إلى واقع ملموس، الشارع العراقى قرر إعطاء العبادى فرصة بل أحاطته بكل مظاهر التأييد لكنه أيضا يراقب بحذر كل محاولات الالتفاف على مطالبه ومحاولات امتصاص الغضب والاحتقان من خلال الوعود الزائفة.
الشارع العراقى التف سريعا حول العبادى كى لا يجد نفسه وحيدا داخل «عرين الأسد» إذ تكرر زخم المظاهرات فور إعلان العبادى الإجراءات الإصلاحية لتؤكد التفاف الشعب حوله وحثه على المضى فى تفعيل إجراءات ترميم العملية السياسية بما يضمن الخروج من المحاصصة الطائفية وكسر قيود الضغوط الممارسة عليه من أحزاب لا هم لها سوى تقديم فروض الولاء والطاعة إلى ملالى إيران خصوصا مع تصاعد التربص بالعبادى بين «صقور» حزب الدعوة الذى ينتمى إليه.
العبادى أمام لحظة تاريخية ضمن فيها اصطفاف الشارع العراقى خلفه شرط جدية وسرعة التنفيذ. من جهة أخرى تداعيات تطور الأحداث الدولية والإقليمية على المنطقة العربية تستدعى إعطاء العبادى الدعم السياسى من المملكة السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي. المملكة التى ما زالت تراقب بحذر وتعيد ترتيب أولوياتها بعد الاتفاق النووى الأمريكي-الإيرانى تضع ضمن مصالحها أن يشاركها الحدود عراق قوى فى ظل مناخ سياسى راسخ يتمتع بالاستقلال والسيادة على أراضيه.. ما يدعم المملكة فى مواجهة ما قد يستجد من تهديدات إقليمية وهو ما ينطبق على دول مجلس التعاون الخليجي. احتضان العراق عربيا ودعم جيشه الوطنى بكل ما يمكنه من استعادة مصادر القوة التى أدرجته قبل ٢٠٠٣ ضمن أقوى أربعة جيوش فى العالم.. كل هذا يدخل ضمن الأولويات السياسية والأمنية فى إطار التحديات التى تواجه منطقة الخليج العربى.
المخاوف الأخرى عبرت عنها بعض الآراء حول رهان عناصر الفساد المتسببة فى تدهور العراق سياسيا واقتصاديا على عدم تمتع المتظاهرين بسياسة «النفس الطويل» وهو ما قد يؤدى إلى تراجع الضغوط التى خلقتها الحالة الثورية قبل تحقيق مطالبها الكاملة فى إصلاح جذرى يشمل كل أوجه الحياة السياسية.. وهو ما يبدو مستبعدا فى إطار حالة الإصرار التى نقلها لى مثقفو العراق من داخل ساحة التحرير والتى تنعكس فى ازدياد أعداد المتظاهرين أسبوعيا.