افتتاح قناة السويس الذى تم وسط حضور عالمى كبير يوم ٦ أغسطس الماضى لم يكن فى تقديرنا مجرد تدشين للقناة الجديدة التى ستفتح أمام مصر آفاقا تنموية لا حدود لها، ولكنها أهم من ذلك أنها دشنت نموذجا مبهرا فى التخطيط التنموى المتقن وفى صياغة استراتيجية لإدارة المشروع حددت الهدف الرئيسى منه، بالإضافة إلى الخطوات المدروسة لإنجازه وفق معدلات محسوبة بالدقيقة وليس بالساعة.
ولعل الدليل على صدق ما نقول أن الرئيس «السيسى» بعد إعلان بداية المشروع واستماعه إلى آراء الخبراء الذين حددوا مدة ثلاثة أعوام لإنهائه طلب تقصير المدة ليتم إنجاز شق القناة الجديدة فى عام واحد فقط.
وهكذا غيرت إدارة المشروع من خططها الزمنية وضاعفت الجهد، وزادت من عدد الكراكات التى تولت الحفر، وتم المشروع وفق إدارة تنموية حازمة لا تقبل البلادة فى العمل ولا الكسل ولا التأجيل ولا التماس الأعذار الفارغة لعدم الإنجاز.
الذى أشرف على المشروع هو الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وهى هيئة تضم خبرات هندسية متميزة، بالإضافة إلى قدرات إدارية فذة، تعمل فى ظل التقاليد العسكرية التى لا تقبل التراخى فى التنفيذ، ولا تتساهل إطلاقا فى مستويات الجودة.
وللذكرى والتاريخ فإن هذه التجربة الفذة فى شق القناة الجديدة لم تكن هى التجربة الأولى التى أثبتت فيها القوات المسلحة جدارتها بأن تكون من أقوى الجيوش العربية ليس فى مجال التسليح فقط، أو فى مجال الخبرة القتالية المتميزة، ولكن أهم من ذلك فى مجال التخطيط الاستراتيجى بكل ما يعنيه هذا المصطلح من معان ودلالات.
وقد سجلت خبرة التخطيط الاستراتيجى المصرى المتقن فى سجلات العسكرية العالمية فى حرب أكتوبر ١٩٧٣.
وقد بدأ هذا التخطيط مباشرة عقب رفض الشعب لتنحى الرئيس «جمال عبدالناصر» فى هزيمة يونيو ١٩٦٧، وكلفه بالاستمرار فى القيادة حتى يقود القوات المسلحة باعتباره القائد الأعلى لها فى حرب التحرير.
وبدأ «عبدالناصر» فى الفور العملية الشاقة الخاصة بإعادة بناء القوات المسلحة، وكلف بذلك ضابطين من الضباط المصريين العظام هما الفريق «محمد فوزى» والفريق «الشاذلى»، بالإضافة إلى مجموعة من خيرة القادة المصريين.
وقد قامت هذه المجموعة بعملها خير قيام، ووضعت برامج تفصيلية للتدريب، وأجريت تجارب متعددة لعبور قناة السويس، وتم استحداث وسيلة تكنولوجية مصرية تكشف عن عظمة الإبداع المصرى لنسف خط بارليف الحصين، وتم العبور فى الوقت المحدد له تماما فى الخطة الاستراتيجية وهى الساعة الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣.
وهذا الالتزام الدقيق بالتوقيت الذى بنى على حسابات فلكية معقدة والذى أدى إلى الانتصار المبهر، هو الذى دفع الرئيس «عبد الفتاح السيسى» إلى أن يختار نفس التوقيت فى ٦ أغسطس الماضى لافتتاح القناة إشارة ورمزا للدقة المصرية الفائقة فى التخطيط والتنفيذ.
وعقب حرب أكتوبر ١٩٧٣ نظمت إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة والتى كان يديرها فى هذا الوقت بكفاءة منقطعة النظير اللواء الدكتور «سمير فرج» ندوة دولية عن حرب أكتوبر شاركت باعتبارى خبيرا وقتها فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية فى التخطيط لها- وكلفت بإلقاء محاضرة فى هذه الندوة الهامة واخترت أن أحاضر فى موضوع «تطبيق نموذج حرب أكتوبر فى مجال التنمية المصرية».
وقلت فيها إن مصر فى حاجة إلى تطبيق خبرة القوات المسلحة الفذة فى التخطيط الاستراتيجى والتنفيذ المبهر للحرب فى معركة القضاء على التخلف وفتح آفاق التنمية المصرية بلا حدود.
بعبارة أخرى طالبت باحتذاء النموذج العسكرى فى الإدارة والإنجاز.
وها أنذا اليوم بمناسبة العبور الشعبى والذى أدى إلى شق قناة السويس بمساندة أساسية للقوات المسلحة أطلب من الرئيس «عبدالفتاح السيسى» أن يدعو مجموعة مختارة من خبراء الإدارة المدنية لإجراء دراسة عاجلة للكشف عن عملية التخطيط والتنفيذ التى قامت بها الإدارة الهندسية للقوات المسلحة لتقنين أبعاد هذا النموذج الإدارى الفذ ليكون أساسا لثورة إدارية كبرى نحتاج للقيام بها فورا للقضاء على الترهل الإدارى فى مؤسسات الدولة ومصالحها ووضع الأسلوب الأمثل لتشخيص المشكلات، ووضع الخطط العلمية لمواجهتها وفق جداول زمنية معلنة.
السؤال المحير لماذا تنجز القوات المسلحة كل المشروعات التنموية التى يعهد بها إليها وتفشل الإدارات المدنية على تنوعها فى تنفيذ سياساتها؟
هنا وهناك مصريون، وهنا وهناك خبراء، فلماذا هذا التراخى المدنى الذى ينضح بالفساد والكسل وعدم احترام الوقت؟ هل لأنه ليس هناك قانون صارم يحكم العاملين فى الجهاز المدنى كما هو الحال فى القوات المسلحة؟ هل لأن هناك نظما للتدريب المستمر لأفراد القوات المسلحة يفتقر إليها العاملون فى الجهاز المدنى؟
هذه أسئلة بالغة الأهمية لابد من الرد عليها. ويكفى إذا تركنا التجربة الفذة التى تتمثل فى شق القناة الجديدة فى عام- ونظرنا إلى التأهيل الكامل لمعهد القلب والذى تم فى شهر واحد لأدركنا أهمية الثورة الإدارية التى ندعو إليها لأنها ستكون هى وليس غيرها مفتاح النهضة التنموية.
اقتباس: هذه التجربة الفذة فى شق القناة الجديدة لم تكن هى التجربة الأولى التى أثبتت فيها القوات المسلحة جدارتها بأن تكون من أقوى الجيوش العربية ليس فى مجال التسليح فقط، أو فى مجال الخبرة القتالية المتميزة، ولكن أهم من ذلك فى مجال التخطيط الاستراتيجى بكل ما يعنيه هذا المصطلح من معان ودلالات.