الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الإرهاب والتعليم "1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ليس ثمة من يجادل فى اعتماد حياة البشر على العلم، بل قد لا يجادل أحد فى حاجة بلادنا تحديدا إلى العلم، لاجتياز تلك الفجوة التى تزداد اتساعا بيننا وبين العالم المتقدم. كذلك فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر تزايد أعداد المتعلمين فى بلادنا بل وتزايد أعداد خريجى تلك الكليات التى اصطلحنا على تسميتها «كليات القمة» وتشمل تخصصات الطب والهندسة وما إليها.
وقد نظن والأمر كذلك أننا نسير ونتقدم على الطريق الصحيح، باعتبار أن جوهر التقدم العلمى يعتمد تحديدا على مجالى الفيزياء والرياضيات.
غير أن ثمة ظاهرة استوقفتنى منذ سنوات، أن الغالبية العظمى ممن اجتذبهم النشاط الإرهابى فى بلادنا كانوا من دارسى تخصصات كليات القمة هذه، وغنى عن البيان أن الفكر الذى اجتذب هؤلاء باعتراف الجميع لم يكن فكرا علميا بحال، بل لم يكن من وجهة نظر الأزهر فكرا دينيا صحيحا.
وحدث أن دعانى الصديق الأستاذ الدكتور محمد شعلان أستاذ الطب النفسى عام ١٩٧٩ لتدريس مقرر فى «مناهج البحث العلمى» لطلاب الدراسات العليا بكلية طب الأزهر (بنين)، واستمرت تلك اللقاءات حتى عام ١٩٨٤ ولم ألبث أن تلقيت دعوة مشابهة من الصديق الأستاذ الدكتور حامد الموصلى أستاذ الهندسة، لإلقاء سلسلة من المحاضرات حول نفس الموضوع لطلاب الدراسات العليا بكلية هندسة جامعة عين شمس فى العام الدراسى ١٩٨٤-١٩٨٥ وأتاح لى الصديق الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى أستاذ الطب النفسى، أداء نفس المهمة بالنسبة لطلاب الدراسات العليا بكلية طب جامعة القاهرة فى العام الدراسى ١٩٩٢-١٩٩٣ كما تفضل الصديق الأستاذ الدكتور المرحوم عادل صادق بدعوتى للمشاركة عدة مرات فى اللقاءات العلمية مع طلاب الدراسات العليا بكلية الطب جامعة عين شمس.
لقد آثرت أن أشير إلى أسماء هؤلاء الأساتذة الأفاضل لكى يتضح للقارئ أنهم جميعا أساتذة استثنائيون لا يمثلون القاعدة بحال.
لقد شهدت تلك الأعوام فى بلادنا بداية وتصاعد الإرهاب فكرا وممارسة وأتاحت لى لقاءاتى المنظمة مع طلاب الدراسات العليا فى كليات القمة أن أحاول البحث عن إجابة للسؤال الذى كان يؤرقني: لماذا كان قادة ورموز وممارسى الإرهاب من بين دارسى تلك التخصصات تحديدا؟ وعاد السؤال يلح علىّ من جديد مع ما نشر من أن مرتكب جريمة حى الأزهر الأخيرة من طلاب إحدى كليات الهندسة. وعدت إلى أوراقى القديمة أحاول مراجعة ما بدا لى تفسيرا.
لقد كان أبنائى من دارسى الطب والهندسة يعدون استثناء بحكم تأثرهم بأساتذتهم الذين أقدموا على مغامرة أظنها لم ولن تتكرر بدعوة أستاذ من كلية الآداب متخصص فى علم النفس للحديث عن «مناهج البحث العلمى» لطلاب متفوقين أكملوا دراستهم الأساسية ويستعدون لاستكمال دراساتهم العليا المتخصصة فى كليات لا تعرف سوى العلم.
ورغم استثنائية الطلاب والأساتذة على حد سواء، فما زلت أتذكر نظرات التشكك والريبة بل والاستنكار والرفض الصريح أحيانا لحديث يدور حول «أسس التفكير العلمى»، وكيف أنه يقوم على التراكمية بمعنى أننا نكمل ما انتهى إليه من سبقنا وكيف أن هذه التراكمية تعنى بالضرورة التسليم بأن ما نعرفه من «حقائق» يظل كذلك إلى أن نتجاوزه أو يتجاوزه غيرنا، ليصبح فى عداد القديم وأن «التفسير العلمى» قابل للجدل دائما بمعنى أنه صحته نسبية وأن علميته إنما تتوقف على قبوله الدائم بالخضوع للتفنيد أى الاختبار للتأكد من صحته أو خطئه، وإن عجزنا عن تفسير ظاهرة ما لا يعنى بالضرورة استحالة تفسيرها بشكل مطلق، كما أنه لا يعنى حتمية قبولنا بأى تفسير مطروح ما لم تتوافر فيه الشروط العلمية وعلى رأسها القابلية للتفنيد وأن التوصل إلى الحقيقة العلمية يقتضى الحذر من مخاطر الانبهار بالشيوع أو بالقدم إلى آخر تفاصيل شروط التفكير العلمى وعلى رأسها نسبية الحقيقة.
واتضح لى أن هؤلاء الأبناء معذورون، فهم وفقًا لنظامنا التعليمى لم يتلقوا طيلة سنوات تعليمهم من مرحلة الحضانة إلى مرحلة الدراسات العليا مقررا دراسيا واحدا يتعلق بالمنطق أو الفلسفة أو تاريخ الفكر، أو ما إلى ذلك من موضوعات تحمل شبهة تعليم المنهج العلمى.
وكان طبيعيا والأمر كذلك أن ترسخ لدى هؤلاء الأبناء عقيدة مؤداها أن التفكير لا يحتاج إلى تعليم، وأن تمحيص الأفكار لا يحتاج إلى تدريب وأنه يكفى للتسليم بصواب فكرة معينة أن تبدو منطقية أو أن تصدر عن مصدر ثقة، أو أن تتفق مع مشاهدات «واقعية» أو أن تكون متكررة لزمن طويل. وتزداد طمأنينة هؤلاء الأبناء ليقينهم فى ظل نظام تعليمى يقوم بالنسبة لكل التخصصات على التلقين ويتوقف فيه النجاح على القدرة على الحفظ ثم «التسميع».
ولعل شيوع ذلك المنهج التلقينى فى نظامنا التعليمى بل ونظامنا الاجتماعى السياسى بعامة، هو ما يفسر أن جاذبية الفكر التكفيرى لم تقتصر بشكل قاطع على أبناء التخصصات «العلمية» وحدهم، ولعل للحديث بقية.