الأربعاء 25 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

رواية "1968" إصدار جديد لدار العين

رواية 1968
رواية "1968"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
صدر حديثا عن دار " العين" رواية "1968" للكاتب أسامة حبشي.
ومن أجواء النص" فأنا ونرجس لنا من الحزن ما يكفى للبعد وهجر العالم ولنا من الرغبة في الرجوع لأحلام القرى الأولى، تلك الأحلام البكر كبكارة تراب الشارع وكبكارة الندى لحظة رؤيتى له.. الفترة الأخيرة جدا من حياتى، كنت أشعر أن نرجس تخاصمنى.. وهل لك أيها القارئ أن تتخيل مخاصمة نرجس لى ماذا تعنى؟ مخاصمة نرجس لى مثل طلوع الروح، مثل رغبة “ناستاسيا” في هجر “روجين” برواية الأبله.. مخاصمة نرجس تشبه أن تدخل النار دون السير على الصراط المستقيم.. مخاصمتها تعنى أننى لست حيا.. كانت نرجس تود الرجوع للقرية/ البلد وكانت تقول بينما أنا في حجرها كتلة صامتة ترتعش عندما أتتنى النوبة الأخيرة:
– يجب الرجوع إلى هناك.. أرى عبدة الدار كل ليلة، وأرى جدتنا والجنيه يعدان العدة للخبيز ولا أرى فاطمة الخبازة أو أمها والقطط.. لا بد يا أخى أن نترك مدينة الألف مئذنة فلنا جامع بالبلد.. أنا سئمت هنا وسئمت نوبتك التي تتكرر وتشرخ قلبى وأنا عاجزة عن الكتابة بدلا منك وعاجزة عن أن أمضى وحدى إلى هناك.. يا أخى أفتقد رؤية الحقول والرشاح وأود الصيد مرة أخرى وهنا مدينة بلا عصافير أو حقول.. يا أخى ما طلبت في حياتى سوى أصابعى الخمسة والآن أطلب الرجوع للبلد.. فهل تفهم ماذا يعنى لى أننى لا أطلب الأصابع الخمسة وأطلب فقط الرجوع إلى بيتنا القديم.. أعلم أن البيت لن يكون كما كان ولكن هناك الرائحة.. أتفهم ما أقول.. أو هل تسمع ما أقول.. أم أن الرعشة التي بك تمنعك عن سماعى؟ يا أخى لم دخلت عالم الكتابة اللعين؟ ولماذا لم تكتب حرفا عن أصابعى الخمسة كى تشفى غليلى؟ أنت تكتب الناس فلماذا لم تكتب حالى وترسله إلى الله؟ يا أخى لماذا لم تكتب عبدة الدار وذهبت وراء شهد وعبد الله؟ يا أخى أصبت قلبى بالعدوى فبات يقول الكلام مثلك ويهذى.. لا حاسبك الله يا أخى ولا عذبك فأنا أحبك وأحب أن ترجع عضمى إلى قريتى.
كانت كلمات نرجس كطعنة “روجين” في صدر “ناستاسيا” تسرى وتتسرب ولا دماء تنزف، أماتتنى تلك الكلمات التي سمعتها كلها وكنت بلا وعى أو بلا شجاعة كى أجيب نرجس، سمعت الكلمات كلها ورأيت دمعة نرجس التي بللت خدى وأحسست أن الله يبكى.. مرت أيام وأنا ما زلت في أنانيتى في مواجهة نرجس، لم أعلق على موضوع الرجوع للقرية وكأننى لم أسمعه مطلقا وهى لم تكرره بتاتا، كنت أعلم أننى لو خرجت من غرفتى فسأخرج إلى قبرى، وكنت أخشى الموت وأخشى الكتابة وأخشى رؤية وجهى في مرآة، كنت أخشى كل شىء حتى لمسة نرجس مؤخرا.. مرت أيام ونرجس لا تعد المأكل ولا أنا أخرج من غرفتى، أيام وأنا في سريرى كالميت لا أتحرك وأنظر إلى سقف الغرفة الذي تحول إلى لوحة كبيرة بها مئات الجماجم ووسطها ورقة وحيدة خضراء، ورقة خضراء وحيدة وسط الجماجم والدماء ولا شىء آخر.
ترى ماذا تصنع نرجس وكيف يمضى يومها؟ حتى ذلك السؤال لم يخطر ببالى.. فهل أستحق العيش يا ربى؟ وفى اليوم الأخير كان الطرق والصراخ على باب الشقة مرعبا وقويا.. ولأول مرة أنتبه للخارج.. وتعجبت من أن نرجس لم تفتح الباب لمن يريدون تحطيم باب شقتنا.. لم أتحرك رغم ذلك.. وفجأة كان أمامى بعض الناس حول سريرى وهم ينظرون لى وأفواههم بها كلمات لم أسمعها وقد وضح أنها حادة معاتبة من انفعال وجوههم.. وعند اقتحام باب غرفتى سبقتهم رائحة الموت.. رائحة قوية وبها عفونة رهيبة.. ومن بين أكتافهم لمحت يد نرجس المحرومة من الأصابع الخمس مرمىة على الأرض.. وتركنى الناس عندما أشرت بيدى كى يخرجوا.. باب الشقة مكسور ونرجس في الصالة ملقاة كالورقة الخضراء بسقف غرفتى والرائحة بها لا تطاق.. ارتميت على نرجس محاولا إيقافها لكنها قد رحلت للبلد بروحها وتركت لى جسدها كى يعذبنى.. لم أدر ماذا أفعل.. كنت أبكى كالمجنون وكلمات نرجس الأخيرة حيث طلبها والتودد من أجل العودة للبلد تملأ المكان وأصبح للكلمات ألف صدى، نرجس تركتنى.. وأنا لم أدر بنفسى إلا وأنا أذهب للمطبخ الذي لم أره لسنوات وأمسك بسكين.. أعود لنرجس ويدى تنزف بغزارة وكنت مصرا على الانتحار بجانب نرجس والغريب أن وجه نرجس رغم الرائحة الكريهة كان به ابتسامة لا أستطيع وصفها.. خرجت الكلمات منى بغزارة وأنا أخبط رأسى بالأرض حزنا على موت نرجس.. وكنت لا أعلم هل أنا حزين على موتها أم حزين لأنها تركتنى وحيدا وهى تعلم أننى سأموت معها حال قررت الموت؟ كنت أنانيا في تفكيرى حتى لحظة انتحارى.. وكانت نرجس ترضى بمصيرها هذا وتعلم أننى حتى في موتى لا أسمع ألمها.. ولاحظت ذلك عندما نظرت إلى وجهها مرة أخرى ورأيت تلك الابتسامة التي تقول لى:
– مُتْ يا أخى بجانب ابتسامة من حرمتها العودة للوطن.
لم أنطق خجلا ولفظت أنفاسا يقال إنها الأنفاس الأخيرة.. لفظت الأنفاس الأخيرة وكنت أرى الكلمات تحملها نرجس في كفها اليتيمة وهى تخرج من غرفتى صارخة:
– اللعنة عليك وعلى كلماتك التي أماتتنى وأماتتك.. أماتت رغبتى بالرجوع وأماتت قلبك بعدم سماع صوتى، هذه هي حكايتك الوهمية التي قايضت بها على أختك كما قايضت الجنيه عبدة الدار على زوجها.. هذه كلماتك الجاحدة جحود جدك في وجه عبدة الدار.. هذه كلماتك التي ظلمت شهد وظلمت أصابعى الخمسة المفقودة مثلما ظلمتنى الحياة بعزوف الرجال عن امرأة قصيرة القامة.. مُتْ الآن في سلام أتمناه لك من كل قلبى ولتذهب روايتك للجحيم".