شهدت الفترة التالية لعزل الدكتور محمد مرسي العديد من حوادث الإرهاب والاعتداء على الكنائس المصرية، في محاولة لإثارة الفتنة الطائفية في البلاد، وإدخالها في دوامة من العنف والفوضى وصولاً لمرحلة اللادولة، ولكن في الواقع من يطالع تصريحات ومواقف قداسة البابا تواضروس الثاني وغيره من أبناء الكنائس المصرية، يتأكد بأنه لم ولن يحدث في يوم من الأيام استخدام هذه المسألة للوقيعة بين أبناء مصر، منذ الاحتلال الفرنسي حتى وقتنا الحاضر.
جاء تأكيد البابا واضحًا، لا يقبل اللبس أو الجدال، “,”جميعًا فداء مصر وثورتها العظيمة“,”، ما شكل حائط صد منيع وقوي لوحدة الأمة وأبنائها، وإن كان هذا الموقف ليس بجديد على الكنيسة، إلا إنه مستمر وقت الشدائد والمؤامرات التي تحاك لمصر من حين إلى آخر.
ويذكرنا التاريخ جيدًا، أن لمصر مكانة خاصة في جميع الأديان السماوية، حيث جاء ذكرها على لسان معظم الرسل والأنبياء، وارتبطوا بها إما بزيارتها أو بالزواج أو المصاهرة منها مثل إبراهيم أبوالأنبياء الذي تزوج السيدة هاجر المصرية وأنجب منها النبي إسماعيل، أما النبي يعقوب فقد جاء إلى مصر عندما تولى ابنه النبي يوسف الوزارة فيها، وقد نزلت الرسالة على النبي موسى في مصر، وزار المسيح مصر زيارة العائلة المقدسة، أما رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام فقد تزوج من السيدة ماريا القبطية، وأنجب منها ابنه إبراهيم الذي توفي في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، كذلك فإن لمصر مكانة خاصة في الدينين الإسلامي والمسيحي، وهي البلد الوحيد الذي ذكر في الكتب المقدسة الإسلامية والمسيحية، ففي الإنجيل “,”كهيئة الرب كأرض مصر“,” (تكوين13 : 10) وفي سفر أشعيا “,”مبارك شعبي مصر“,” ، وفي سفر التكوين “,”كان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة ومن هناك ينقسم إلى أربعة فروع اسم واحد منها جيحون“,” (تكوين 2: 10 : 13) وكتب التفاسير تقول إن هذا الفرع هو نهر النيل ويقول تفسير لسفر التكوين إن نهر جيحون عندما يمتلئ من المطر ينزل في أرض مصر ويروي جميع بقاعها لأن أرضها منخفضة.
وقد ورد ذكر مصر صراحةً في القرآن الكريم خمس مرات في قوله تعالى: “,”اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ“,” (البقرة آية 61)، “,”ادْخُلُوا مِصرَ إِن شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ“,” (يوسف آية 99)، “,”قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْك مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ“,” (الزخرف آية51)، “,”وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا“,” (يونس آية87)، “,” وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا “,” (يوسف آية21) كما ورد ذكر بعض مناطقها مثل سيناء مثل “,”وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ“,” (سورة المؤمنون آية 20)، “,” وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ“,” (التين آية 1،2) “,” وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا “,” (مريم آية 52).
وفي أحاديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أيضًا ما يشير إلى معنى قريب إذ يقول: “,”إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالأقباط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا“,”، والرحم هنا هي هاجر أم إسماعيل عليه السلام، والملاحظ أنه رغم دخول الإسلام مصر وهجرة عدد من القبائل العربية إلى مصر، إلا أن هذه الهجرات لم تكن بالقوة أو الكثرة التي تغير من التركيب السكاني لمصر فقد ظل أهلها الأصليون لهم الغلبة والكثرة، ولذا فإن الإسلام لم يصبح دين الأغلبية إلا عندما تحول معظم الأقباط إلى الإسلام.
وعلى أي حال فقد احتفظ الشعب المصري بأصوله العرقية، وهو الأمر الذي حافظ على الأواصر والوشائج قوية بين الجماعتين الإسلامية والقبطية، ولعل ما قاله بعض الباحثين يوضح ذلك حين يدون أن الشعب المصري ينبع من أصول واحدة، ويقول في “,”إحصاء العالم الإسلامي“,” إن 6% من الشعب المصري قبائل يرجع أصلها إلى الفتوحات الأولى، و2% قبائل بربر مستعربة جاءت في القرن التاسع من الغرب مع الفاطميين، و2% قبائل بدوية من أهل البلاد الأصليين، و2% بوهيميون مسلمون، و88% عائلات قبطية تحول تسعة أعشارها إلى الإسلام وهم يشكلون الأغلبية.
إن العلاقة بين المسلمين والأقباط كانت في مجملها جيدة، وإن شهدت أحيانًا فترات من التوتر، وكان هذا يرجع إلى سلوك بعض الحكام، والحقيقة المؤكدة أن وحدة الشعب المصرى “,”مسلمين وأقباط“,” وارتباطهما بالوطن ليس محل شك، فعلى مر العصور ظل الأقباط يؤمنون بالوطن فوقفوا ضد جميع الغزاة يدافعون عن البلد بجانب المسلمين، حيث كان الشعب في هذه الفترات واحدًا لا يعرف المسلم من المسيحي، وقد وقف الأقباط ضد الصليبيين رغم أنهم مسيحيون جاءوا من أوروبا حاملين الصليب رافعين شعار تحرير بيت المقدس، إلا أن الأقباط عرفوا أن الغرض هو الاحتلال وأن رفع الشعارات الدينية ليس سوى وسيلة لاحتلال الوطن، ولذلك قاوموهم مع إخوانهم المسلمين.