وصلاح زكى ليس بغريب عنا، بل هو واحد من جيل الشباب الناصرى الذى آمن بالعدل الاجتماعى مصطحبًا الفكرة القومية باعتبارها طوق نجاة، كان صلاح من مؤسسى منبر اليسار، ومن قيادات التجمع، وهو يحرص فى أولى صفحات كتابه «قادة الفكر العربي- عصر الليبرالية العربية « (١٩٠٠-١٩٥٢) على أن يوضح هويته ورؤيته فيبتدئ الكتابة بالآية الكريمة «إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون» ثم حديث شريف «أيها الناس، الرب واحد، والدين واحد، وليست العروبة بأحدكم من أب أو أم، ولكنها اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربى».
ثم يكمل تعريفه أن طموحه «هو رسالة يوجهها إلى الأمة فى حركتها ونموها، صعودها وانكساراتها، أحلامها وطموحاتها، أجيالها الراهنة والتى لم تولد بعد، ولذلك فهى مهمة كبرى ورسالة عظيمة أتمنى أن يقيض الله للاضطلاع بها تلك العصبة المؤمنة القادرة المستمسكة بالحق والساعية إلى العدل والداعية بين الناس برسالة التسامح والاستنارة والنهوض. وغاية ما أسعى أن أكون واحدًا من روافد شتى يصبون فى نهر الفكر العربى الحديث، فرغم ما اعتوره من نكسات وعثرات خلال القرنين الماضيين فهو فكر طليعى ومتقدم وإنسانى ونبيل، فرواده وأصحابه هم أعلام نهضة، ونماذج فذة على صعيد القوة الإنسانية، وكانوا بما استمسكوا به رايات ومشاعل للتقدم لأمة شقت طريقها للحياة ومازالت متطلعة إليها» (ص١٤).
ويمكن القول إن كتابة صلاح زكى تعتمد على تتبع ما خطه رواد التنوير والحرية والتقدم الجدد وإعادة النظر فيه والاقتراب منه أو الابتعاد عنه كرؤية علمانية ذات مزاج قومى ومزيج من فكرة التحرر من الاستعمار الخارجى والاستبداد المحلى والانطلاق الفكرى ذى العمق العلماني. وهو يتأمل فى أقوال لمصطفى كامل تقول إن اتفاق ١٩٠٤ بين إنجلتزا وفرنسا ألقى على مصر درسًا علمها ألا نهوض لها إلا بجهودها الخاصة، أما عن فكرة التقدم فى فكره مصطفى كامل فقد تجسدت «فى رؤيته للأمة المصرية رؤية علمانية ترى أنه لا يجوز للغة أو الدين أن يؤثرا فى تحديد من يمكن أن تشملهم الوطنية المصرية»، كما أنه يرى «أن هناك دائرتين الدين والحياة الوطنية وأنه ليس من داع لأن يقوم نزاع بينهما» (ص٢١).
وبينما كان الكثيرون على زمان مصطفى كامل يتملقون الخلافة ويعتبرونها ركنًا أساسيًا من أركان الإسلام، كان مصطفى يدعو إلى استقلال مصرى يتباعد بمصر فكريًا وواقعيًا عن الخلافة العثمانية، فقد كتب «إن بلادنا تحتاج إلى جمعية نيابية تتمتع بالسلطة التشريعية العليا. أن بقاء السلطة الفردية فى يد مصرى أو فى يد أجنبى هو شيء ضار وقاتل للبلاد» ويرتفع صوت مصطفى «أننا نطالب بحكومة دستورية حرة، أن الإرادة الوحيدة التى نريد الخضوع لها هى إرادة الشعب». ومن معركة مصطفى كامل ضد الخلافة العثمانية إلى معركة العربية الفتاة التى تأسست فى باريس ١٩١٣ وكان ضمن قادتها عبد الغنى العريسى والتى تناقضت مع فكرة الخلافة العثمانية ومع المحاولات العثمانية لتتريك العرب، وترك لغتهم العربية، وقد تجلى دور العريسى على صفحات «مجلة المفيد» والتى أكد فيها الرابطة العميقة بين العرب مسلمين ومسيحيين فهم يرتبطون برابطة الجنس واللغة والوطنية» وتبدى الدهاء السياسى للعريسى فى مقال كتبه فى مارس ١٩١١. بمناسبة يوم ميلاد الرسول متحدثًا عن رسالة قومية مناهضة للخلافة فكتب «إن محمدًا هو رجل كسائر الرجال وأنه داعية تقدمى لحرية الفكر التامة وللأخوة الصادقة، وهو نبى الأمم جمعاء والعرب خاصة الذى كان انتسابه لأمتهم شرفًا عظيمًا لها»، ويقول فى مقالة أخرى محرضًا العرب فى منطقة الشام ضد الخلافة العثمانية، وضد كل «من يتطاولون على حقوقكم فعاملوهم بالمثل فإنهم يضربونكم فى عقر داركم فلا تغضبوا ويزدرونكم فلا تردوا» وهو يؤكد على المشروعية الوطنية فى مواجهة انعدام مشروعية الخلافة مؤكدًا «أن الدين الإسلامى لا ينفى الوطنية فهو حريص على إخاء المواطنين من غير المسلمين، حفيظ لمساواتهم مؤكدًا أن الوطنية هى رابطة اللغة والجنس، وأن حرية أبناء الوطن وحقوقه واحدة» ويعلن أن الفضيلة الكبرى هى حب الوطن، ويرى ذلك واجبًا أساسيًا على كل رجل لأن مستقبل الوطن بأبنائه.
ويقول العريسى: «إن أرقى مرحلة فى التطور هى طور العقل الذى يدافع عن حق الفرد وحرية أفكاره وأخلاقه ومعتقده، وأن لكل شعب يقوم على أساس وحدة العنصر واللغة أن يدير نفسه بيده». كل ذلك بينما كان العثمانيون وأتباعهم يؤكدون أنه لا «وطنية فى الإسلام»، وأن الخلافة هى ركن أساسى فى الإسلام، وأن إضاعتها إضاعة للذات، ومن قعد عن نصرة الخلافة والدعوة لها فهو آثم. وعندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى بدأت حركة العربية الفتاة فى الاستعداد لثورة عربية، وتصدى لها جمال باشا السفاح الذى شكل ما سُمى الديوان العرفى، وقدم الغالبية العظمى من شباب العربية الفتاة للمحاكمة أمامه فحكمت عليهم جميعًا بالإعدام شنقًا، وكان عبد الغنى العريسى ضمن الدفعة الثانية، وكان يوم إعدامه فى الخامسة والعشرين من عمره، وقد كتب وصيته فى أعقاب صدور الحكم بشنقه فهاجم الخلافة التركية هجومًا عنيفًا، وقال «لقد حاول العثمانيون قتل لغتنا وجربوا أن يميتوا عاطفتنا القومية، وبذلوا الجهد فى تتريكنا فلم يفلحوا» (ص٢٤)
وهنا تكون معركة التجديد بالأساس معركة وطنية قومية مناهضة بالقول والعمل للخلافة العثمانية وجوهر فكرة الخلافة ذاتها.
ونواصل مع صلاح زكي