«تبدأ الهزيمة المعنوية عندما تعم الفوضى، ويبدأ الانتصار بانتظام الصفوف»..قاعدة بسيطة ولكنها مهجورة لا يلتفت إليها أحد رغم المعاناة اليومية التى يعيشها المواطن المصرى بسبب تلك الفوضى، وإذا كانت فوضى المواصلات والتعليم والصحة هى الأكثر وضوحًا، فالقاهرة والإسكندرية وعواصم المحافظات تعيش تحت وطأة فوضى إضافية يلمحها المتابع بوضوح، إنها فوضى اللافتات.
ويشارك فى تلك الفوضى كل مكونات المجتمع ابتداء من المثقف رفيع المستوى، وصولًا لصاحب الحظ البسيط من الثقافة، من مهنيين وتجار وحرفيين، مراهقين وعجائز كلهم مغرمون بحالة التشوه التى يصنعونها بأيديهم للإعلان عن أنفسهم، قرأنا لافتات عملاقة على أسوار السكك الحديدية وقريبًا من محطات المترو ومواقف السيارات عن عملاق دروس الفيزياء وإمبراطور الرياضيات، وعن مراكز التخسيس وغيرها من الأنشطة، هذا التشوه لا ينعكس سلبًا على القيمة الجمالية العامة للمدن، ولكنه ينعكس فى سلوك الصغار الذين تتجول أعينهم مثل كاميرات فوتوغرافية تلتقط وتقرأ كل ما تطاله، فيبقى فى وجدانهم ووعيهم هذه الحالة من الصراع التى يتواطأ عليها الجميع.
لا يتوقف الأمر عند حدود الحوائط، ولكن بنظرة خاطفة للعمارات الرئيسية التى تضم عيادات أو مكاتب محامين، أو غيرهم ستجد العجب العجاب، ابتكارات لا تخطر لك على بال فى بروز اللافتات وحجمها وسخافة إضاءتها، وكأن المريض يمشى فى الشارع ليصعد إلى أول طبيب يقرأ لافتته الرديئة.
سافرنا إلى عدد من دول العالم ولم نجد تلك العشوائية، واللافتات هناك تخضع لقوانين وكود منظم من حيث الحجم واللون والمكان والبيانات الأساسية المكتوبة عليها، أعرف أن تلك الفوضى الضاربة على جدراننا هى ابنة سنوات الإهمال والرشوة، وأعرف أيضًا أن تنظيمها ليس صعبًا ولا مستحيلًا، فقط بالإرادة وبارتقاء الذوق العام وتطبيق القوانين واللوائح المنظمة لتلك الأعمال.
والمعروف هو أن المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية، وضع أسسًا ومعايير بشأن التنسيق الحضارى للإعلانات واللافتات، كان ذلك فى عام ٢٠٠٨ وسبق تلك الأسس حزمة من القوانين ترعاها المحليات من أجل تحقيق المتطلبات المرورية والعمرانية والبصرية، ولكن التعليمات فى وادٍ والناس فى وادٍ آخر.
فالكلام النظرى جميل ورائع، ولكنه مدفون فى أدلة إرشادية لا يتم الالتفات إليها، ولا الحرص على العمل بها. فعندما نقرأ الأهداف العامة التى وضعتها الحكومة بأن تصحيح الصورة البصرية والمحافظة على جماليات المدن هما من أولويات التنسيق الحضاري، وأن الالتزام بأسس وقواعد تقنن علاقة الإعلانات واللافتات بحرم الطريق والمجال العمرانى المباشر له، وكذلك تحديد المسافات البينية للإعلانات واللافتات باختلاف أنواعها ورسالتها الإعلانية هما ضرورتان ملزمتان، عندما نقرأ مثل ذلك الكلام الدقيق، ونصطدم على أرض الواقع بعشوائية لا ينافسنا فيها أية دولة بالعالم سنعرف خطورة الموقف الذى يعيشه الشارع بسبب هذه الفوضى.
إن تحديد القواعد المعيارية لمقاسات وأحجام وأشكال جميع الإعلانات واللافتات، وزوايا الرؤية واتجاهات الحركة الآلية والمشاة، وتحقيق السلامة منعًا للحوادث والمخاطر الممكنة، هى بديهيات الرقى والذوق والتحضر، كما أن استمرار العشوائية والتشوه والبلطجة، هى بديهيات القبح والتخلف وبروز لحالة الطمع وتغليب المصلحة الفردية على الصالح العام، وهى الحالة التى تطغى على المعلن من خلال إعلانه.
الشارع وواجهات العمارات والطرق السريعة أراها أملاكًا عامة وليس من حق جاهل جهول الاعتداء عليها بتسميم أرواحنا بإعلاناته الفجة، وأقترح حتى نكون واقعيين فى مجابهة تلك المشكلة بالبدء من منطقة وسط البلد بالقاهرة وإعلانها محمية أثرية وضبط حالة الصرع التى أصابت الجميع عندما اعتمدوا على الإضاءة الراقصة للإعلان عن خدماتهم، وإذا كانت منطقة وسط البلد كبيرة على المحافظ أو رئيس الحى، فلتجربوا ضبط إيقاع اللافتات فى شارع واحد وقارنوا النتائج الإيجابية المذهلة بالسرطان الذى انتشر ربما وقتها ينضبط الآخرون.