نعم. كانت الرقابة خلفى قبل أن أمارس فعل الكتابة نفسه! بما فيه كتابة اسمى على كراستى ! فقد كان يجعل الرقباء يحددون موقفا تجاهي. وكانوا جميعا من مدرسى اللغة العربية ومن أول يوم لى في الدراسة الابتدائية. يسألوننى هل أنت مسلم ؟ أم مسيحى أم شيوعى؟ أم كافر لا ملة له!.
واستمر ذلك طيلة حياتي. ولعل الكتاب والنقاد وبعض القراء مازالوا حائرين حتى الآن!. كان أبى وأمى لا يفكران في الإنجاب وعندما رزق عمى بطفل اقترح أبى أن يسميه ستالين (وكان ستالين حيا) وطاوعه عمى على سبيل المزاح ولما جئت أنا بعدها بسنة لم يجدا سوى لينين اسما لي. ولما جاء لعمى طفل أصغر سماه (نبيل) لكن الأسرة أطلقت عليه اسم دلع وهو (مولوتوف) زيادة في المزاح!.
كان أبى وأمى يعملان بالصحافة والسياسة وبعد ولادتى بشهور قليلة في ١٩٤٥ وجهت الدعوة لمصر لأول مؤتمر نسائى دولى بباريس فجمع أبى لأمى توكيلات لتمثل المرأة العاملة ضمن ثلاث سيدات تكوّن منهن الوفد فتركتنى رضيعا وسافرت، ثم علمت بمرضى فبعثت برقية لأبى تقول (طمنى على حال لينين)، ولما كانت هناك رقابة على البرقيات فقد صادرها القلم السياسي واستدعت أبى لتحقق معه وقد ظنت أن اسم الزعيم الروسى اسم حركى لشخص أو عملية! فهو متهم بالشيوعية ولم يقتنعوا إلا بشهادة ميلادى.. وبعد عام في سبتمبر ١٩٤٦ أجرت معه مجلة الإثنين حديثا (مازال ضمن أوراقي) ليسألوه لماذا سمّى ابنه لينين مع صورة لى، وتكرر ذلك مع مجلة آخر ساعة وغيرها. في ٢٣ مايو ٤٨ تم اعتقال أبى رغم موقفه المعادى لاحتلال فلسطين وكراهيته للحزب الشيوعى المصري! وأى حزب شيوعي. واعتقلت أمى في سجن الأجانب وسط اليهود. فأصرت أن تأخذنى أنا وجهاد الذي يصغرنى بعامين معها. وقد حدثتنى عن ذلك فيما بعد. ظل اسمى يدهش مدرسى اللغة العربية ويدهشنى أيضا دهشتهم، ففى بداية كل سنة يقرأون الاسم فيحققون معي (هل أنت مصرى أم أجنبي؟ ثم مسلم أم مسيحي؟)- ولم أكن أعرف معنى كلمة المسيحي- وعندما أقول مسلم يرد المدرس (إذن قف واقرأ الفاتحة)، فأقرا الفاتحة. وتكرر هذا مع كل مدرس جديد، وفى مرة لم تقنع إجابتى المدرس فطلب أن أقرأ الشهادة أيضا فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فسكت على مضض غير مصدق.
وفى الإعدادية سيصبح السؤال هل أنت شيوعي؟! وتصوروا معى.. طفل شيوعى ببنطلون قصير.
وكنت أحتار وأسكت وأعرف أن أبى لم يدع الناس للشيوعية وإنما الاشتراكية ولم أكن أفهم هذا أو ذاك. لكنى وعيت أن اسمى يثير الريبة وجعل هذا منى شخصا خجولا، ولكنى لم أكره اسمى ولم أكره أبى أو أمي. فهو اسمى وتمسكى به يعنى لى التمسك بحريتى لكنى شعرت بالاغتراب وقد عشت به سنوات طويلة.
وسمعت كلمة الرقابة من أمى لأول مرة وأنا في السادسة عندما لاحظت مساحات بيضاء في بعض صفحات الصحف، فسألتها عن السبب فقالت إنها كتابات حذفت بواسطة الرقيب في آخر لحظة قبل الطباعة وفهمت على نحو غامض أن السلطة لا تريد نشرها لأنها تراها خطرا عليها، وعندما اشتريت لأمى الجرائد صباح اليوم الثانى لحريق القاهرة يناير ٥٢ رأيتها تطالع مانشت الصحيفة وتخبط على صدرها بضيق قائلة إنهم أعلنوا الأحكام العرفية.ك نت قد تعلمت أن أسأل وشرحت لى كالعادة وقد فهمت تقريبا!.
كنت أشترى مجلة (سندباد) للأطفال ثم أبحث عمن يقرأ لى ما يصعب على فهمه. ويوما لم تعطنى أمى القرشين لأشتريها فأخذت ألح عليها وكانت تغسل الأطباق ومهمومة فأزعجها إلحاحى وصفعتنى لأول مرة في حياتها فبكيت بحرقة، حتى قالت بوضوح إنها لا تملك قرشا واحدا. وعندئذ فقط فهمت وسكت.
في التاسعة انشغلت أمى يوما بتغليف وإرسال أعداد مجلة يصدرها أبى وحاولت مساعدتها فتسببت في إرباكها، قالت لتتخلص مني: لماذا لا تكتب أنت صحيفة وتتركنى أعمل؟. وفى الحال نزعت غلاف كرأسة مدرسية ثم سألتها ماذا أسميها؟ فكرت لحظة وقالت (المواطن الصغير) وقد كان، ولكنها نبهتنى أنى نسيت حرف الألف في كلمة (المواطن) ثم رسمت قدما ضخمة تضرب مؤخرة جان بول، الشخصية التي تمثل الاحتلال البريطاني. ولا أذكر أننى كتبت كثيرا ولكنى رسمت إعلانا عن ساعة كما أرى في الصحف.. وبعدها واصلت هذا العمل ولعدة سنوات كلما جاءت الإجازة وأبيعها للأقارب بنصف قرش. وبدأ أولاد خالتى يقلداننى رغم أنهما يكبراننى كثيرا.