منذ عشرة أيام بالتمام والكمال حلقت ثلاث طائرات «رافال» فوق الأهرام والقلعة ومدينة الإنتاج الإعلامى، مدشنة انضمامها لسلاح الجو المصرى، ومشاركة فى افتتاح قناة السويس الجديدة، والمعروف أن تلك الطائرات الفرنسية المتطورة تعد إضافة نوعية لقدرة مصر على حماية سماواتها، وهي- كذلك- نقطة إشارية دالة على تنويع مصادر السلاح كسياسة أساسية للقوات المسلحة المصرية تحقق استقلال القرار الوطنى وتحرره من الإملاءات والمشروطيات التى حاولت الولايات المتحدة الأمريكية فرضها على مصر بعد ثورة ٣٠ يونيو العظمى، بحجب أموال المعونة العسكرية السنوية، ثم وقف صفقات المروحيات الأباتشى، والمقاتلات إف- ١٦، والتى لم تسلمها واشنطن إلا بعد ثبوت انكسار إرادتها أمام مصر الدولة الصغيرة ذات الكبرياء الكبير والطموح العريض والإرادة الفولاذية التى تتكئ على تاريخ وحضارة هما الأعرق عالميًا، والتى يفخر شعبها باستمرار بأن أفراد جيشه هم خير أجناد الأرض.
كان ظهور «الرافال» محاطة بأسراب من الطائرات إف- ١٦ باعثًا على الثقة فى نفوس أفراد الشعب والجيش وسط أتون حربهم على جماعات الجهاد التكفيرى، والتى أخذت أبعادًا خطيرة فى الآونة الأخيرة ربما كان أهمها المعركة البحرية أمام سواحل دمياط منذ شهور، ومعركة كمائن الشيخ زويد التى حاول فيها المئات من عناصر الإرهاب الاستيلاء على بقعة من الأرض المصرية ورفع علمهم الأسود عليها، ومحاولة الإعلان التليفزيونى بأنهم حصلوا على ولايتهم المزعومة فى سيناء، لتبدأ بعد ذلك أبواق آلتهم الإعلامية الجبارة فى الطنطنة مروجة للأكذوبة، وإذا صمدوا-لا سمح الله- كان مئات آخرون من عناصر الإرهاب سينضمون إلى الموجة الأولى من الهجوم، ويتلقون دعمًا من البحر عبر الحدود مع غزة أو من الشيخ زويد نفسها.
نهايته ....
ظهور «الرافال» فى هذا التوقيت، ووسط تلك الملابسات يذكرنى بواقعة عاصرتها فى فتوتى وسط لهيب حرب الاستنزاف التى خاضتها مصر ضد الاحتلال الإسرائيلى، لتثبت أن كارثة الهزيمة عام ١٩٦٧ لم تكسر إرادة المصريين، وأن شعبنا عقد العزم على أن يفرض بالحديد والنار كلمته على قوى العدوان.
إذ فى ٥ يونيو عام ١٩٦٨، وبعد عام بالضبط من الهزيمة قررت القيادة العامة للقوات المسلحة بمصادقة القائد الأعلى الرئيس جمال عبد الناصر أن تقوم طائرات سلاح الجو المصرية بعملية ظهور رمزى فوق سماء القاهرة وعلى ارتفاعات مختلفة، لإثبات أن السلاح الذى استهدفه العدوان بالضربة الأولى فى هجومه قد أعيد بناؤه.
وبالفعل، مرقت فوقنا عشرات الطائرات، بدءًا من المروحيات (مل) من ١ إلى ٨، وطائرات النقل (الأنتونوف- ١٢)، إلى المقاتلات ميج (١٥- ١٧- ٢١)، والمقاتلات القاذفة (سوخوي- ٧ب م)، والقاذفات (أليوشين- ٢٦)، والقاذفات الاستراتيجية الثقيلة (تى يو- ١٦).
وكان لمرور تلك الطائرات فى سماء القاهرة فعل السحر فى نفوس المصريين الذين استعادوا بعض ثقتهم فى أنفسهم بعد الضياع الذى خلفته الهزيمة فى وجدانهم، كما كان لذلك الظهور الرمزى وأخباره أثر رائع فى معنويات رجال القوات المسلحة الذين جرحهم كثيرًا أن يحملهم الشعب مسئولية الهزيمة، وهم غير مسئولين عنها، وتذكرون أن الرئيس السيسي- فى إحدى خطبه بالدورات التثقيفية للقوات المسلحة قبل توليه الرئاسة- قال: «أنتم لا تعرفون الجيش.. النار لا تحرقه ولكن الكلمة تجرحه».
وهذا- بالضبط- ما جرى عام ١٩٦٧ حين راحت عناصر الطابور الخامس تطلق النكات على الجيش المصرى، الأمر الذى دفع الزعيم جمال عبد الناصر فى المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى العربى عام ١٩٦٨ أن يطلب من الناس التوقف عن ترديد تلك النكات الساقطة.
وأذكر أننى تعرضت لعملية الظهور الرمزى للقوات الجوية المصرية بعد عام فقط من تدميرها، فى حوار طويل جدًا، جمعنى بالفريق أول محمد فوزى القائد العام الأسبق للقوات المسلحة ووزير الحربية، الذى تولى مقاليد الأمور فى الجيش مع رئيس الأركان الفريق عبد المنعم رياض يوم ١١ يونيو ١٩٦٧، بتكليف أساسى هو إعادة بناء القوات المسلحة المصرية لإزالة آثار العدوان.
وفى ذلك الحوار الذى ضمنته كتابى «أحاديث الحرب والسلام والديمقراطية» سألت الفريق فوزى عن الكيفية التى ظهر بها سلاح الجو المصرى فى سماء العاصمة بعد عام واحد من تدميره، فأجابنى: «لحسن الحظ كانت هناك شحنة روسية من طائرات السوخوى (حوالى ٥٠ طائرة) وصلت إلى مصر قبل العدوان، وكانت لا تزال فى صناديقها، وأضفنا عليها بعض الطائرات التى وصلت لنا من الجزائر ضمن مساهمة من الرئيس هوارى بومدين فى المواجهة، وبعض ما ورد لنا عبر الجسر الجوى الروسى بعد العدوان، وكان ذلك الظهور الرمزى لطائراتنا فى سماء مصر، ولا تنس أن القوات الجوية المصرية وقت قيادة مدكور أبو العز لها فى أعقاب الهزيمة مباشرة، تصدت لإسرائيل عند قناة السويس، وخاضت معها واحدة من أشرس المعارك يوم ١٤ يوليو ١٩٦٧، يعنى بعد شهر واحد من الهزيمة، إذ كان لدينا بعض الطائرات كما قلت لك وقمنا بإعادة تشكيل أسرابها وأفواجها من جديد».
ظهور «الرافال» فى سماء مصر وقت الحرب ضد التكفيريين والجهاديين واستهداف بلدنا ومشروع السيسى لبناء مصر من عدد كبير من القوى الإقليمية والدولية، استدعى إلى ذهنى مشهد الظهور الرمزى للقوات الجوية عام ١٩٦٨، وسط حرب الاستنزاف ضد إسرائيل، والاستهداف الكبير لبلدنا ولمشروع جمال عبد الناصر لبناء مصر.
كما استدعى ظهور «الرافال» بعض ما تحصلته من أخبار حروب أمم أخرى فى الماضى، ومنها مواجهة بريطانيا مع النازى، وبالذات فى الهزيمة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، إذ قام الألمان بتوجيه سلاح جديد إلى بريطانيا يعرف باسم (V-١) أو(الانتقام- ١)، وهو ما يشبه الصاروخ، ويعد الأب الشرعى لصواريخ كروز الأمريكية الحالية، وهو عبارة عن طائرة بدون طيار تحمل كمًا هائلًا من المتفجرات، يتم إطلاقها على المواقع البريطانية، وهذا السلاح «blind» لا يمكن توجيهه، وتصدى له البريطانيون بالمدافع المضادة للطائرات وبطائرات «ستيت فاير» التى كانت تقترب منه، وتدفعه بجناحها فى جناحه، فيحيد عن وجهته ويسقط فى الريف بعيدًا عن لندن، ثم أطلق الألمان سلاحًا آخر اسمه: (V-٢) أو (الانتقام- ٢)، وهو صاروخ بالمعنى التقليدى أشبه بصواريخ «سكود»، ولم يكن من الممكن اعتراضه، وكان ذلك فى ١٣ يونيو عام ١٩٤٤، بعدما يقرب من أسبوع من غزو نورماندى.
ولم يشعر البريطانيون بالارتياح أو الأمن إلا حين قام سلاحهم الجوى (وبأعداد وافرة) بتوجيه الضربات لألمانيا (كانت الولايات المتحدة تستخدم ألف طائرة فى الهجوم النهارى على ألمانيا ثم تبدأ ألف طائرة بريطانية فى توجيه الضربات الليلية إلى العدو).
كان الأمل يشع فى نفوس البريطانيين حين يتطلعون إلى السماء فيجدون أسراب طائراتهم تتشكل فى السماء آخذة طريقها إلى المواقع النازية، وإلى ألمانيا ذاتها.
هذا هو الأثر النفسى المهم جدًا فى الحروب، والذى أحدثه منظر القوات الجوية البريطانية، وهى تتوجه لضرب الألمان، أو مشهد طائرات سلاح الجو المصرى فى عملية الظهور الرمزى عام ١٩٦٨ وسط أتون حرب الاستنزاف، أو- أخيرًا- «الرافال» وهى تحلق فوق الأهرام، وبين طائرات سرب من إف- ١٦ وسط لهيب الحرب مع التكفيريين الجهاديين، ولإثبات رسوخ مبدأ استقلال الإرادة الوطنية ضد التبعية، عبر تنويع مصادر السلاح للقوات المسلحة المصرية.