يعنى إيه كلمة وطن؟
ليس هذا سؤالا عاطفيا، نستدعى تراثا من الأغانى وأفلام الأبيض والأسود والنحنحة لنجيب عنه، لا نحتاج إلى شحن أنفسنا بحالة من الشجن والحنين إلى ذكرياتنا لنعبر عما نشعر به، نحتاج فقط إلى أن نواجه أنفسنا ويواجه بعضنا البعض بصراحة تصل إلى حد الجرح، لأننا لو واصلنا حالة التواطؤ الكبرى التي نعيش فيها، فيمكن أن نستيقظ يوما فلا نجد الوطن من الأساس، وعندها سيتحول أي سؤال عنه إلى حالة من العبث العفن التي لا تُطاق.
في مصر -وبالمناسبة- كما في العالم كله، لا يوجد وطن واحد لدى جميع المواطنين، كل منا له وطنه، يستريح فيه إذا ما تمكن من تحقيق ما يريد، ولا يطيقه، بل يخطط للهروب منه ولو من خلال مركب من المحتمل جدا أن يغرق في عرض البحر لو فشل فيه، لا يوجد بين المواطن ووطنه صك عبودية، يضطر بمقتضاه المواطن إلى أن يتحمل كل ما يجرى له وعليه، دون أن يكون له الحق في أن يصرخ أو يعترض أو يطالب بما يرى أنه حقه.
لا أجيد اللف والدوران على الورق، ولذلك فلا داعى من الطواف حول المعنى الذي لا بد أن اعترف به، الواقعى جدا للوطن، فالوطن -ومع احترامى الشديد لمشاعر كل من يتغنون به- ليس إلا مصالح، إذا تحققت مصلحتك فيه أحببته وغنيت له، ولا مانع أيضا من أن ترقص من فرط السعادة به، وإذا لم تتحقق تتحول إلى خصم، ولا مانع لديك من أن تتحول كل طاقاتك إلى ثورة للتخريب والتدمير، وفى الحالتين أنت على صواب.
من قال لنا «بلادى وإن جارت على عزيزة/ وأهلي وإن ضنوا على كرام»... لم يكن إلا مخادعا أو مخدوعا، فالبلد التي تجور عليك لا يمكن أن تكون عزيزة عليك أبدا.
لو كانت كذلك لما دفع شاب كل ما يملكه هو وأهله من أجل أن يهرب منها، واحتمال الموت أكبر من احتمال الحياة، لو كانت كذلك لما حاصرها شباب من تيارات كفرت بها بالقتل والتخريب والترويع، لمجرد أنهم لم يستطيعوا أن يحققوا أنفسهم فيها، أو لمجرد أن جماعتهم لم تنجح في إدارة شئون البلاد فقرر الشعب طردها، لو كانت كذلك لما استباحها النصابون والأفاقون ورجال الأعمال، وحوّلوها إلى أكبر سبوبة على مر التاريخ.
لا أشكك في حبكم لمصر على الإطلاق، لكنه ليس مطلقا أبدا، هو حب شرطى، حصلت على ما تريد فأنت متيم بها، فشلت وتعثرت لعنتها بالأم والأب والأجداد.
ولأن المصالح تتصارع طوال الوقت، فالصراع هو ما يحكم الجميع على أرضية الوطن الواحد، كل طرف يريد أن ينتزعه لنفسه، يصيغه على هواه، ومن أجل راحته هو، وبعد أن يسقط الوطن في حجره، يصدر إلينا مفهومه للوطن على أنه هو المعنى الوحيد، وما دون ذلك خيانة وعمالة وسقوط.
هل تريدون شاهدا على ذلك، قاضى محكمة فيلم الأفوكاتو الشهير، أروع ما أخرج رأفت الميهى، وأروع ما مثل عادل إمام في حياته الفنية، يوجه حديثه إلى حسن سبانخ: «يا أخى كل واحد يجى هنا يقول لنا مصر الوطن... مصر الوطن، لما كلكم وطنيين وبتحبوا مصر، أومال مين اللى بيعمل كل الفساد ده».
هذا هو التعبير الأصدق عن معنى الوطن، فالكل يدعى وصلا بليلى، وليلى لا تقر لهم بذلك، جميعنا يتحدث بحب وهيام عن الوطن دون أن نحاول مجرد محاولة أن نعمل من أجله بتجرد ودون البحث عن مصالحنا الخاصة، وهذه هي الأزمة الكبرى التي تواجه الوطن الذي نعمل جميعا على تمزيقه، دون أن نمنح أنفسنا فرصة ولو صغيرة لنلتقط أنفاسنا ونسأل أنفسنا: إلى أين تقودنا حالة الاسترزاق بالوطن؟
ستهتف في وجهى، ستقول إنك تحب الوطن، حتى إن لم تحقق فيه ما تريد؟ سأقول لك: أنت كاذب... ولا مزيد.