فى اللقاء السابق توقفنا عند المؤامرة التى حاكها بيبرس الجاشنكير، نائب السلطان فى مصر، على ابن تيمية حين جعل بعض العلماء يدعونه للمناظرة، وقاموا بجره للحديث فى قضايا شائكة، وهى الخاصة بالأسماء والصفات، وانتهى الأمر بإقرار هؤلاء العلماء بفسق ابن تيمية وقرار حبسه دون تحديد مدة معينة، ولكن بعض العلماء من المستنيرين شعروا بمدى الظلم الذى وقع على الشيخ الشاب، ووجدوا أنه من العار أن يحبس عالم لمجرد اجتهاده، فذهب هؤلاء إلى «سيلار» النائب الثانى للسلطان، وقالوا له: إن ابن تيمية لم يقل كلمة واحدة تدينه، فهو اجتهد فى تفسير الأسماء والصفات، وباب الاجتهاد قد فُتح أمام كل عالم، حتى إن أخطأ فلا يجب أن يكون مصيره السجن، وليكن عقابه عدم الخوض فى هذا الحديث مرة ثانية، واستجاب «سيلار» لطلب هؤلاء العلماء، وأخرج ابن تيمية من السجن على أن يعود إلى دمشق ولايبقى فى القاهرة، وبالفعل عاد ابن تيمية ليجد التتار قد داهموا حدود المدينة فأمسك سيفه وامتطى جواده، وشارك فى المعركة، وهو يخطب فى الناس مرددا: «لقد وعدنا الله تعالى بالنصر، ألم يقل فى كتابه العزيز «وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»، إذا أخلصنا النية لله تعالى وأصبحنا من المؤمنين حقا فإن الله لن يخذلنا حتى وإن كان التتار أكثر عددا وعدة، قاتلوهم لأنهم فئة باغية، قاتلوهم حتى وإن رفعوا المصاحف»، وبالفعل تحقق النصر المبين وانتصر أهل دمشق القلة على التتار، وعاد ابن تيمية البطل محمولا على الأعناق، فأثار ذلك غضب الأمير الأفرم، صديقه القديم، فالناس تهتف لابن تيمية وليس للأفرم، والنصر ينسب إليه وإلى حماسه فى المعركة، ولما وصل الخبر إلى الجاشنكير فى مصر ثار وغضب وطلب إرساله مع البريد إلى القاهرة، وبمجرد وصوله اكتشف بيبرس الجاشنكير، وهو لمن لا يعلم غير الظاهر بيبرس، اكتشف أن الشعب المصرى ينتظر قدوم الشيخ الفقيه، ذلك الشاب الصغير الذى تعدت أخباره الحدود دون وجود للإذاعة أو التلفاز أو الفضائيات، لقد جاءوا لرؤيته وللاستماع إليه، لاسيما وهو يكشف للمسلمين بعض البدع التى دخلت على الدين الحنيف، مثل الذبح عند أضرحة الأولياء، والذهاب إلى العرافين والسحرة للعلاج من الأمراض، وأعد الجاشنكير مناظرة ثانية لابن تيمية، فى الوقت الذى تم فيه نسخ كتابه «السياسة الشرعية فى أحوال الراعى والرعية» الذى يذكر فيه أن الخروج على الحاكم هو بمثابة الكفر، إذ لا يجب الخروج على الحكام بعد البيعة، وهو يستند فى ذلك إلى قول النبى صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا وإن اسْتُعْمِل عليكُم عبدٌ حبشىٌّ كأنَّ رأسهُ زبيبة» (رواه البخارى فى صحيحه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن يطع الأميرَ فقد أطاعنى ومَن يعصِ الأميرَ فقد عصانى»، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنَّهُ مَن خرج مِنَ السُلطانِ شبرا ماتَ ميتة جاهلية».. هذه هى أقوال ابن تيمية يا من اتهمتم ابن تيمية بالتشدد، إنه يرفض الخروج على الحاكم مطلقا، وفى الجزء الثانى من الفتاوى الكبرى يقول بالحرف الواحد: «إن الإسلام دين الوحدة ودين الجماعة ولو أباح النبى صلى الله عليه وسلم قتال الحاكم لفسدت الأرض، ومن عليها وولى كل امرئ نفسه فى عشيرته، وثارت عليه القبيلة، ولكنه ألزمنا بالسمع والطاعة، ولم يرق كتاب السياسة الشرعية للجاشنكير ذلك، لأنه قد خرج بالفعل على السلطان، فقرر جمع نسخ الكتاب وحرقها قبل أن تبدأ المناظرة التى أشرف على الإعداد لها بنفسه، وقبل أن ينطق ابن تيمية بكلمة واحدة فؤجئ بمناظريه وقد كيّلوا له مجموعة من الاتهامات، من بينها أنه يدعو الناس لعدم زيارة أضرحة الأولياء، علما بأنه قال فى الجزء الثالث من الفتاوى الكبرى بأن الزيارة جائزة، أما شد الرحال فهو غير جائز، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلاّ لثلاثة مساجد...»، وهكذا، وقبل أن يدافع ابن تيمية عن نفسه حُكم عليه مرة أخرى بالسجن.
آراء حرة
ابن تيمية المفترى عليه (4)
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق