كنت أجلس في إحدى عربات الدرجة الثانية، في قطار الصعيد- قادمًا من بلدتي إلى القاهرة- منذ أكثر من ربع قرن تقريبًا، وكان يجلس جانبي رجل من أهالينا يلبس العمة على رأسه والجلباب الصعيدي ذا فتحة الكم الواسعة، وكان يجلس أمامنا- بكرسيين- شابان يرتديان ملابس يبدو منها أنهما من أبناء الأثرياء حديثا، لأن تصرفاتهما لم تدل على أنهما من أبناء الأصول أو العائلات، بادر أحدهما الرجل الجالس جانبي بالقول: "فاكر يا حاج زمان أيام الجنيه الخشب وجوز الحمام لما كان ثلاثة فرادي؟" وابتسم الرجل في هدوء قائلا: "أنا مش فاكر يا ولدي غير حاجة واحدة، إن في زماننا الراجل كان بيخلف راجل"، صمت الجميع بعدها حتى وصلنا إلى القاهرة.
لا أعرف لماذا تذكرت هذا الحدث وأنا أتصفح مقال الزميل العزيز الأستاذ مجدي الجلاد، المعنون: "أنا صرصار وأنت أيضا"، ففي بلادنا- نحن أبناء الصعيد- دايما الراجل بيخلف راجل، لم نعرف أنه بيخلف صرصار، سوى هنا في بلاد البندر، في هذه الأيام الغبرا التي نعيشها اليوم، فالصرصار مسحوق بالأقدام دائما، عكس "الراجل"، هامته مرفوعة بيدافع عن عرض وشرف وقيم، يخوض معركة أمة نيابة عن العالم كله، فجماعات الإرهاب- سواء كانت داعش أو أنصار بيت المقدس، أو الإخوان وحلفاءهم في غزة وقطر واسطنبول، هم تتار هذا العصر، والجندي المصري يخوض ضد هؤلاء جميعا معركة مقدسة، لا أبالغ إذا قلت إنه يخوضها نيابة عن البشرية جمعاء، حضارته وموقع بلاده ومكانتها ومكانة جيشه تفرض عليه ذلك، لذا فليس من الغريب أن نرى ونسمع عن كل تلك البطولات من الجندي أبانوب حتى الجندي عبدالرحمن، ملحمة يصنعها جميعهم فهم على قلب رجل واحد، أسود في مواجهة صراصير الإرهاب وغربان داعش، التي حطت في بلادنا مستغلة أوضاعًا صنعها- وما زال يغذيها- تحالف دولي وإقليمي أراد تركيع البلاد والعباد، وتفتيت الجيوش وأجهزة الأمن، تمهيدًا لإشاعة الفوضى الخلاقة، وتقسيم الأمم والأوطان.
هذه عقيدتنا التي نؤمن بها عن ظهر قلب، لسنا صراصير ولا فئرانا، إنما نحن أسود ندافع عن عرين هذه الأمة كل في مجاله، المواطن بالصبر والوقوف يدًا واحدة خلف قواته المسلحة يدعم ويدعو مبتهلا إلى الله أن ينصر أبناءه، وصاحب القلم بالفكرة والتحليل الذكي والرؤية الواضحة، والموقف الوطني الحازم الداعم لأسود جيشه وشرطته، لقضاة شرفاء يخوضون معركة العدالة فتصيبهم سهام الغدر تستهدف حصد أرواحهم عقابا لهم عما يفعلون.
نعم هي معركة مصير ومعركة وجود لا مكان فيها للصراصير، إنما المكان الوحيد المتاح، إنما هو للأسود، هؤلاء الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن بلادهم وأمتهم، يعرفون جيدا أنها معركة مقدسة بين الخير والشر، بين وطن أرادوا له الركوع فأبى إلا أن يصمد ويكسر كل أحلامهم وطموحاتهم وخططهم واستراتيجياتهم على صخرة صموده، ومواطن فضل الجوع ومدغ المر والصبر على أن يسلم بناته سبايا لذئاب داعش، كما أراد له الأمريكان وحلفاؤهم، مواطن وقف عاري الصدر في الثلاثين من يونيو يواجه تتار هذا العصر بحناجر ملتهبة تهتف بسقوط حكم المرشد، نعم حكم المرشد أيها الصرصار، قالها هذا الشعب العظيم واضحة جلية، الإخوان أعداء هذا الشعب، أرادوا بيعه في سوق النخاسة واستبداله بالأهل والعشيرة، لا صراع على سلطة بين فريقين ولا يحزنون، ولكن ماذا نفعل لذاكرة الصراصير فهي مثل ذاكرة الأسماك ضعيفة. صحيح لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولكن من كان يراهن علي استمرار حكمهم، من باغتته ثورة 30 يونيو، من انحنى للريح حتى لا تطير رأسه، من اعتبر الأمر استراحة محارب، من سعى إلى قبض الثمن فلم يجد سوى وطن فقير وجريح، لا يملك سوى الصبر والعزيمة. هؤلاء الصراصير ليست تلك معركتهم، هذه معركتنا نحن، معركة هذا الشعب المسكين الذي كان يُجَهَّز- عن بكرة أبيه- للذبح كالخرفان على مذبح الجماعات الإرهابية، لولا ثورة 30 يونيو المجيدة التي أنقذته وأنقذت الأمة كلها من مصير محتوم.