تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ما زلنا نعبر المسافة الحرجة بين الثورة والدولة، وهي محملة بكل التناقضات، وتتنازعها صراعات وتباينات جمّة تفرضها طبيعة المراحل الانتقالية الحادة، ويزداد الأمر تعقيدًا بقدر تشابكات المصالح المحركة للأطراف المتنازعة وتجاوزها للرقعة المحلية والإقليمية على أهميتها، فما زالت الجغرافيا ترسم التاريخ وهي خبرة مصرية متكررة.
المختلف اليوم مستجدات العصر التقنية وعلى رأسها الطفرات الكبيرة في فضاء التواصل وآليات الدمار، والتي انعكست على الأحداث، وربما الأزمة الحقيقية أن تُسخَّر هذه التقنيات لحساب منظومة فكرية متراجعة ومفارقة للعصر، بل ومخاصمة للحياة والحضارة، وما زالت تدغدغ إحباطات العامة بخيالات دينية.
وفي المقابل ما زالت المواجهات والحلول أسيرة الفكر التقليدي، بينما المرحلة ثورية، وما زالت الرؤى المطروحة تنطلق من مدارس كلاسيكية تنظيرية تجاوزتها اللحظة، وما زال صانعو الثورة بمنأى عن مطبخ صنع القرار، ومقدمات إخفاقات ما بعد 25 يناير -الغامضة والملتبسة- تتكرر في مرحلة ما بعد 30 يونيو، فهل ننتظر نتائج مغايرة؟
وعلينا أن ندرك أن انهيار جماعة الإخوان مرحليًّا لا يعني نهاية الصراع مع تيار سياسي عتي، فهم مجرد فصيل في هذا التيار، قد يكون الفصيل المؤسس والأكثر تنظيمًا والأشهر، لكن هناك فصائل تطرح نفسها كبدائل وورثة يسعون للانقضاض على المشهد بخبرة أقل وشراسة أفدح، كانوا يحجزون مكانًا في صفوف الحوار الوطني ويحشدون أتباعهم في تجمعات رابعة والنهضة، ويصدرون بيانات تأييد خارطة المستقبل ويمارسون ضغوطًا مستعرة ليأتي الإعلان الدستوري مطابقًا لجهدهم في محاصرة مدنية الدولة، فيحمل نصًّا ما كبّلوا به دستور 2012 في ما عرف بالمادة المفخخة 219، وتلعب ضغوطات لحظة الثورة ومخاوف الفشل دورها في قبول هذا، ولهذا لم يحتمّل البدلاء المقترحون عودة القوى الوطنية المدنية، للمطالبة بتنقية الدستور من الاختطاف اليميني المتطرف وعودة مصر الحضارة والمتصالحة مع تاريخها ومع التنوع والتعدد والاندماج الوطني. لذلك تطايرت التهديدات المنذرة بالعودة إلى الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم التي روعت فيها مصر بأعمالها الإجرامية التي هزّت استقرار وأمن الوطن وأبرزها قتل السائحين في ما عرف بـ“,”مذبحة الأقصر“,” و“,”مذبحة الكشح“,” و“,”مذبحة مديرية أمن أسيوط“,” وتفجيرات المنيا، وليس غريبًا أن يرتد إرهابي زعم أنه راجع خياراته الإجرامية وتاب عنها، يرتد إلى طبعه الدموي ويقود عصابات التخريب بصعيد مصر، والمنيا تحديدًا.
ويحشد له جوقة من منشدي الإرهاب يرفضون المساس بمواد “,”الهوية“,” بالدستور، ويروّجون لمفهوم أن الدين هو الهوية، بالمخالفة للمنطق والمفهوم الصحيح للهوية، غافلين عن أن الهوية تتشكل من مجموعة عوامل ومدخلات، لا يمكن أن تختزل في الدين، وهي منتج تراكمي حضاري وإنساني، ليس حكرًا على طائفة أو تجمع أو تكتل، فالمصرية متجاوزة وحاضنة للتنوع الديني، ولكل مصري حق أصيل في وطنه وهو بدوره مكون أساسي في الهوية المصرية. الهوية هي التاريخ والثقافة والموروث والأرض والحلم المشترك.
ويبدو أن الإرهابيين لا يقرأون غير كتب التخريب، فكيف لهم أن يراجعوا أسباب انهيار الحضارة المصرية القديمة واندثار الإمبراطورية المصرية في الحقبة الفرعونية، ليكتشفوا أن الانهيار بدأ حين وضع رجال الدين أيديهم على مقاليد السلطة حينها، كانوا يتبنون نفس الرؤية بأن الدين وطن، ويعتمدون نفس المنهج الإقصائي والأحادي الاستعلائي والدموي، وحين بسطوا سيطرتهم تحللت الدولة وانهارت الحضارة، ما أشبه اليوم بالبارحة وإن تباعدت الأزمان.
ونحن نعبر مرحلة الاستفاقة بحاجة إلى تناول مختلف لخارطة الخروج من النفق المظلم، نحتاج إلى انضباط الجيش وخبرة السياسيين من غير المرتعشين وحماس الشباب وثوريتهم، على قاعدة دولة القانون، الذي اختل ميزانه بعد أن زاحمه وكاد أن يزيحه العرف والعشوائية، ولا يمكن تصور دولة حقيقية بغير سيادة القانون وشيوع ثقافة القانون.
وعلينا مواجهة محاولات منح الإرهابيين بصورهم ومسمياتهم المختلفة قبلة الحياة ومن يثقبون الجدار لعودتهم المتخفية للمشهد السياسي في ما اطلقوا عليه “,”المصالحة“,”، وهى حق يراد به باطل تأسيسًا على المزاج المصري المتسامح، فلا أحد يرفض المصالحة، لكن السؤال الأولى بالطرح مصالحة مع مَن؟ هي مصالحة مع الوطن وبشروط الوطن، أما الجرائم التي اخترقت حاجز الدم وأراقته فلا تدخل في إطار التصالح، وعلينا مراجعة خبرات وتجارب العالم المتحضر من حولنا، هل نتصور تصالحًا مع النازي فى ألمانيا، أو مع الفاشيست في إيطاليا؟ هل نتصوّر تحول الانفصاليين في أيرلندا إلى حزب يتحدّث باسم الجيش الجمهوري؟ أو يسمح للقاعدة بتشكيل جمعية سياسية بالولايات المتحدة؟
ولهذا لا يتصوّر أن تشارك هذه التنظيمات في وضع الدستور المنتظر، فلا يستقيم أن تشارك أحزاب دينية في تقييم تعديلات تقضي بمنع قيام أحزاب على أساس ديني!!، وقد غطت تهديداتهم بجر البلد والعباد إلى مربع الدم والإرهاب الفضاء السياسي والإعلامي حال تعرّض مكتسباتهم المغتصبة للحلحلة أو الانتقاص.
من الثورة إلى الدولة طريق ممتد وشائك محفوف بالمخاطر، لعل أبرزها الدخول في طور التفجيرات والسيارات المفخخة المحاولة البائسة واليائسة للنظام الإرهابي الذي سقط ومعه حلم إعادة رسم خريطة المنطقة لحساب مصالح مشتركة بينه وبين القوى الدولية.
من الثورة إلى الدولة طريق يحتاج إلى إرادة حديدية وتصميم جاد على التحول الديمقراطى على أرضية مصرية صلبة لا تلتفت إلى المواءمات والتوازنات فمن يضع يده على المحراث لا يعود ينظر إلى الوراء.