عرضنا فى مقالنا السابق أننا كثيرا
ما نظن أننا نعاقب المخطئ، ثم نكتشف أننا ننزل عقابنا الحقيقى بغيره، بل نقدم له فى
حقيقة الأمر مكافأة تغريه بالتمسك بسلوكه وتكراره.
وتقدم لنا نظريات التعلم فى علم النفس حقيقة ثانية
بالغة الأهمية فى مجال استخدام العقاب وسيلة لتعديل السلوك، تتمثل فى ضرورة التفرقة
بين العقاب والانتقام.
الفارق بين العقاب والانتقام فارق دقيق، العقاب
عملية تربوية تستهدف القضاء على سلوك خاطئ، أما الانتقام فإنه سلوك يستهدف التنفيس
عن الغضب من سلوك محرج أو مثير أو مرفوض حتى لو لم يكن ثمة اتفاق على كونه سلوكا خاطئا،
وكثيرًا ما شاهدت كبارًا يندفعون غاضبين لتأديب مرؤوسيهم أو أطفالهم، معتقدين أنهم
يعاقبونهم، ولكنهم فى حقيقة الأمر ينفسون عن غضبهم وأزمتهم هم، ويندر أن تؤدى تلك الاندفاعات
المدمرة سوى إلى إثارة المزيد من العنف الناجم عن الإحساس بالظلم لدى من يوقع عليه
العقاب.
ينبغى أن تكون الرسالة الموجهة للطفل أو المرؤوس
أو حتى الخصم رسالة بالغة الوضوح: نحن لا نرفض وجودك، بل نرفض خطأك، وسوف يتوقف العقاب
إذا ما انتهى الخطأ، وهو ما نفتقده فى كثير من الأحيان، سواء على مستوى العلاقات بين
الأفراد أو حتى بين الدول، حيث يحدث ما يطلق عليه «اختلاق الذرائع لتبرير العقاب»،
وإغلاق الباب أمام المخطئ للعودة عن خطئه.
لقد صادفت كثيرًا من الآباء والأمهات والمسئولين
يتصورون أن الإقلال من شأن من يعتبرونهم مخطئين واحتقارهم والتشهير بهم قد يساعد على
تصويب سلوكهم، إنهم بذلك لا يدينون خطأ معينًا أقدم عليه المخطئ، بل يدينون المخطئ
نفسه، ومن ثم فإنهم يدفعون به إلى طريق مسدود، بحيث لا يجد أمامه سوى الانطواء متوعدا
أو التمرد مدمرا، وفى أغلب الأحيان لا نتبين مدى مسئوليتنا عن استمرار الخطر والخطأ.
ومن ناحية أخرى، فإن فعالية العقاب مهما كان عقابًا
بسيطًا تتزايد كلما كان مصدر العقاب شخصًا موثوقا به يترك الباب مواربا أمام العودة
عن الخطأ، إن إيماءة معاتبة لا يلحظها أحد قد تكون كافية لتعديل سلوك الطفل أو المرؤوس
أو الزميل إذا ما صدرت تلك الإيماءة من شخص محبوب موثوق به، والبشر الأسوياء لا يعرفون
«الحب أو الاحترام من طرف واحد» بل يحبون ويحترمون من يعبر لهم صراحة وضمنًا، قولًا
وفعلًا، عن حبه واحترامه لهم باعتبارهم شركاء فى الأسرة أو فى الوطن بقدر إدانته لأفعالهم
الخاطئة، وفى إطار هذا الحب والاحترام المتبادل يكون للعقاب قيمة تربوية حقيقية.
وتزودنا حقائق قوانين التعلم بتأكيد أنه كما يقول
أهل الاختصاص فى القانون ما معناه إنه لا عقوبة بدون تجريم، ولا تجريم بدون نص، ولا
نص بدون إعلان، فالقاعدة بنصها تنطبق على فعالية العقاب فى تعديل السلوك، ورغم منطقية
هذه القاعدة فإن الكثيرين قد يغريهم الاندفاع إلى إيقاع العقاب دون تبرير أو حتى إنذار
مسبق.
كثيرًا ما شاهدت أطفالًا يعاقبون، والدهشة ترتسم
على وجوههم وتنطق بها عيونهم، إنهم لا يدركون سببًا واضحًا مقنعًا لعقابهم، قد تكون
الأسباب موجودة بالفعل، بل وقد تكون أسبابًا قوية، لكنها موجودة فى عقول الكبار الذين
يتولون العقاب، متصورين أن على الصغار أن يستنتجونها لأنها واضحة جلية غنية عن البيان.
إن توفير سبب عقلانى للعقاب يعد شرطًا ضروريًا
لكى يحدث ذلك العقاب أثره التربوى المطلوب، بالإضافة إلى أنه ينبغى أن يكون ثمة إعلان
مسبق يحدد ملامح السلوك الخاطئ، وأن الإقدام على هذا السلوك سوف يؤدى إلى ذلك العقاب
المحدد، وبدون هذه المقدمات سوف يفقد العقاب مبرره، ولا يترتب عليه سوى الإحساس بالظلم،
والإحساس بالظلم كفيل بإعاقة أى تعديل حقيقى للسلوك.