تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
من سنين طويلة جدًا.. من يجى كده ٣٠ رمضان فاتوا.. كنت لسه بتحايل على البهجة.. وكنت بعرف اصطادها.. مع إنى بكره كل أدوات الصيد.. من أول النبلة.. ولحد «الفخ» اللى كنا بننصبه واحنا صغيرين عشان نصطاد بيه القمري.. وليس نهاية بشبكة الحديد اللى كنا بنربطها بسلك الكهربا عشان نصطاد بيه السمك من الترعة.
الصيد الوحيد الذى أعشقه ومازلت حتى هذه اللحظة أغالب نفسى حتى لا أتوقف عنه هو «صيد البهجة».. نعم فلصيدها أصول.. وقدرات نولد بها.. لكننا وللأسف نفقدها عامًا بعد عام.
وفى رمضان تحديدًا استطاع المصريون أن يخترعوا مئات الأسباب لصنع بهجتهم.. هم الشعب الوحيد فى العالم الإسلامى الذى حول رمضان إلى طقوس مبهجة.. من أول الفوانيس.. والزينة.. ومرورًا بصوانى الكنافة وليس نهاية بالبوظة والسوبيا والقطايف.. والتواشيح.. وأخيرًا المسلسلات.
رمضان الصعيدي.. حاجة تانية.. حر موت.. ولكن فى عز هذا الحر تولد البساطة التى كانت سر سعادتنا.. بعد كل عصر.. ينطلق الصغار إلى السوق لشراء «الثلج».. كان الباعة يأتون به مجموعة من الألواح من بلاد البندر وكنا نتسابق لنحصل على قطعة صغيرة من هذا اللوح.. نخوض صراعًا ضخمًا للحصول على هذه القطعة ويا ويله اللى تقع منه فى التراب.. ممكن تبقى خناقة فى البيت والفطار يبوظ.. وبعد معركة قطعة الثلج.. الملفوف فى قماش الخيش.. تأتى معركة الحصول على شوية بوظة.. وهى شراب عجينى أبيض اللون قيل فيه حكايات، فبعض المغالين يرونه «مسكرًا».. وفى بلاد الفلاحين له ألوان متعددة.. منها الأحمر.. لا أعرف كيف يصنعونها.
حبات الثلج.. نجرى بها.. لتضاف للبوظة.. وللقلل القناوى التى اشتريناها قبل رمضان بأيام من الفخرانية التى كانت بيوتهم بجوار محطة السكة الحديد.. لا نعرفهم فى العام كله إلا فى رمضان.. رغم أنهم يبيعون أشياء أخرى غير القلل.. الزيار.. ومواجير العجين.. والمراديس.. والطواجن المعتقة.. كل هذه البهجة اختفت ومعها الراديو الخشبى الذى كنا نضعه فوق الفرن ويلتف الجميع حوله لسماع شويكار وفؤاد المهندس.. اختفى الجميع.. وتركنا بلادنا وجئنا للقاهرة الفاطمية «أم رمضان».. والموالد.. وبيوت أحباء رسول الله.. وعلى ضوء شمعهم جرينا نبحث عن بهجتنا..
أول رمضان عشته فى القاهرة كنت محظوظًا.. فقد طلبنى المخرج الجميل الممثل المعروف الآن صبرى فواز لأكتب له أغنيات إحدى مسرحياته المأخوذة عن قصة قصيرة ليوسف إدريس اسمها «سره الباتع».. وكتبت مجموعة من الأغنيات لحنها الراحل أحمد شاهين، وكانت هديتى الكبرى وجائزتى التى لم أحلم بها أن من تم اختيارها للغناء والتمثيل فى العرض الذى تقرر إقامته فى المؤسسة العمالية بشبرا الخيمة الجميلة المدهشة خضرة محمد خضر.
شهر كامل من المتعة مع صوت خضرة المبهج.. وحكايتها الأكثر بهجة ومع ناس بساط من حى شعبى مزدحم.. خضرة كانت قد اعتزلت الغناء من فترة تلبية لرغبة بناتها، لكنها لم تستطع مقاومة عشقها الوحيد.. وكل يوم عقب العرض تبكى لأن أحد أزواج بناتها - ضابط شرطة - يرفض أن تغني.. ٣٠ ليلة وأنا أذهب كل يوم لأبكى من المتعة.. وحزنًا على صوت خضرة!!
كرهت ذلك الرجل - نسيبها - دون أن أراه وكرهت كل الذين لا يعرفون أن هذه البلاد «لا قومة» لها.. ولا تقدم.. ولا حضارة.. ولا بناء إلا بمن هم مثل خضرة.
لقد أدرك ذلك رجال جمال عبدالناصر.. وصنعوا جسرًا ثقافيًا مهمًا.. حول مشروعاته التى أقيمت على الأرض.. سد عالي.. وتصنيع.. وزراعة إلى مشروعات قومية.. وإلى متعة أيضًا.. جيل ثروت عكاشة وزكريا الحجاوى وفؤاد حداد وسيد مكاوي.. وصلاح جاهين هم آخر «عتبات البهجة».. التى نتسلق بهداديبها الآن.. لماذا لا نستدعيهم.. وكنوزهم موجودة فى ماسبيرو.. ولماذا لا تصنع جسرًا جديدًا.. يحول مشروعات مثل القناة الجديدة.. أو «المليون فدان» إلى مشروعات قومية وإلى بهجة.
الإجابة.. لأنه لا يوجد ثروت عكاشة.. لا يوجد سوى من «يحارب خضرة وبناتها وأحفادها.. سواء بدراما فاسدة أو بفتاوى أكثر فسادًا.. وإقالة هؤلاء فرض فى رمضان.. وإن تأخرتم حتى العيد ليفهموا.. فلن يفهموا.. ولو تأخرتم قليلاً لما بعد العيد.. سأقولها لكم بصراحة.. «بعد العيد ما يتفتلش كحك».