تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
إِنَّ أحدًا من الفقهاء والعلماء لم يُظلم كابن تيمية، ظلموه حيًا وميتًا، تقوّلوا عليه وما زالوا حتى الآن يجلسون فوق مقاعدهم الوثيرة وهم يتجشأون بأقوال مرسلة، على اعتبار أنهم من المثقفين مع أنهم لم يقرأوا كلمة واحدة خُطت بيد «ابن تيمية» كفاك أيها الظالم، إنك لا تدرى ما الذى سيحدث لك يوم العرض على الله، لقد ظلمت فقيهًا عالمًا وتلسنت عليه بأقوال لم ينطق بها، رحمة بنفسك، اقرأ كتبه وآثاره، ابحر فى علمه الغزير علك تصل إلى شاطئ الحقيقة، مثلما فعلت ذلك حين تعرضت لكتابة مسلسل تليفزيونى عنه أذيع على القنوات العربية فى مطلع الألفية الثانية وجسد دوره الفنان طارق الدسوقى، وشاركه البطولة أشرف عبدالغفور ومديحة حمدى ومدحت مرسى وغيرهم، وهذا العمل أعتز به كثيرًا لأنه قادنى إلى أمواج التاريخ التى أعشقها وأتنفس عبيرها عبر كتب التراث المختلفة، واسمحوا لى أن أقدم قصة الإمام ابن تيمية من واقع دراستى له فى سلسلة مقالات متتالية..
كان الأطفال فى حران - مدينة الخليل إبراهيم بسوريا الآن - يجتمعون حول شيخهم عندما استمعوا لصهيل خيول ليست عربية، انتفض الجميع، ففى القلب يسكن الخوف من التتار، ومن بين هؤلاء الأطفال «أحمد» والذى لم يكن قد بلغ السابعة بعد، ورغم ذلك استطاع أن يحفظ القرآن الكريم والكثير من الأحاديث النبوية الشريفة، راح الأطفال يسابقون الريح فى سبيل الوصول إلى ديارهم، لكن أحمد لم يستطع العدو معهم إذ سرعان ما شعر بالتعب لنحافته وقلة إقباله على الزاد، كم ضربته أمه - ست النعم - على ذلك لكنه يأبى أن يأكل حتى يراجع دروسه، فإذا فعل ذلك أجل الطعام حتى يصلى، كان تقيًا منذ الطفولة فأطلق عليه أبوه «تقى الدين» وإذن فقد لحقت خيول التتار بأحمد وداسته أقدامها حين ارتمى على الأرض من شدة الفزع وشُجت رأس الصغير، وعاد إلى أبيه وأمه وأخويه عبدالله وعبدالرحمن وقد ابتلت ملابسه بالدماء، ولعل هذه اللحظة التاريخية هى واحدة من أهم مكونات الشخصية، إنها لحظة الشعور بالقهر إزاء قوة غاشمة، لماذا لا نحاربهم؟ لماذا لا نقف أمامهم ونمنعهم الدخول إلى بلادنا؟ لماذا يا أبى نرحل إلى دمشق ونفر من مدينتنا حران؟ هكذا تساءل الطفل الصغير، وهنا فقط بدأت مناقشات الطفل أحمد مع أبيه، والتى اكتشف فيها الأب لأول مرة رجاحة عقل الابن، إنه يملك الحجة والدليل وينتصر على الأب برأى سديد، وبدأ الأب يعجب بقدرة الصغير على استحضار الحجج مدعومة بالآيات والأحاديث وبالشعر العربى القديم أيضا، مال الأب عبدالحليم على زوجته ست النعم وقال لها: سيكون لابننا هذا شأن عظيم، وأكملوا جميعًا الرحلة إلى دمشق، وهناك قدم الشيخ عبدالحليم ولده الصغير أحمد إلى الإمام (النووى) صاحب كتاب (رياض الصالحين)ليتعلم على يديه الفقه، كانت المشكلة أن طلاب الفقه من الكبار ومن الغريب أن يحضر معهم ذلك الطفل النابغة، فالأمر غير مسبوق وربما يؤدى إلى اعتراض الطلاب، وهذا ما حدث بالفعل غير أن الإمام النووى دافع عن الصغير وأسكت الكبار، وذات يوم تغيب الإمام النووى عن الدرس وبعث بشيخ آخر من شيوخ دمشق وراح يتحدث عن فقه الشافعى فى مسألة بعينها، لكنه أورد الرأى الأول للشافعى والذى قاله فى بغداد وعدل عنه فى القاهرة (فالفقه الشافعى مر بمرحلتين، الأولى فى بغداد، والثانية فى مصر، والشافعى رحمه الله تراجع أو عدل عن كثير من الآراء حين جاء إلى مصر ونظر فى علم الليث بن سعد) وهذه الحقيقة كان يعلمها الطفل ابن تيمية الذى وقف يخبر بها الشيخ الجديد فثار الرجل وغضب وطرد الطفل من مجلس العلم، ولكن هذا الشيخ نفسه عاد وذهب إلى دار أحمد بن عبدالحليم بن تيمية كى يعتذر له بعدما راجع المسألة الفقهية مثار الخلاف، ووجد أن الطفل كان محقًا فيما قاله وسمعت دمشق كلها بأنباء ذلك الصغيرالنابغة، الذى أوقفه الإمام النووى ذات مرة ليتحدث فى مسألة فقهية، فإذ به يسرق ألباب الحضور ويسيطر عليهم.. وللحديث بقية.