تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
كثيرا ما نستخدم تعبير «العصا والجزرة» فى أحاديثنا اليومية باعتباره تعبيرا له سمعة سلبية. إنه يعنى فرض سلوك معين باستخدام «الإغراء والتهديد» أو «الوعد والوعيد»، وترجع السمعة السلبية التى اكتسبها المصطلح من نفور طبيعى لدى البشر تجاه من يحاول تعديل سلوكهم أو أفكارهم أو اتجاهاتهم. إننا جميعا نعلن وبفخر أن آراءنا وتصرفاتنا تنبع من قناعاتنا الداخلية، وأننا لا نأبه بوعد أو وعيد. لا تغرينا الجزرة ولا تخيفنا العصا، وأننا ثابتون على قناعاتنا ومبادئنا ما حيينا.
لقد كنت مقتنعا بتلك الفكرة اقتناعا يصل إلى حد اليقين: الإنسان المحترم هو ذلك الذى لا تتأثر اتجاهاته أو تصرفاته بخوف من عقاب أو طمع فى ثواب. وظللت مطمئنا لذلك اليقين إلى أن بدأت أولى خطواتي فى دراسة علم النفس وكان موضوع «التعلم» وما زال من أوائل الموضوعات التى يدرسها الطلاب فى ذلك التخصص. وسرعان ما تبين لى أن يقينى المزعوم ليس سوى وهم كبير، و أن تصرفات البشر لا تتشكل وتتغير بشكل حر طليق لا ضابط له ولا رابط، بل إنها تخضع فى نشأتها وتطورها لقوانين صارمة لا تسرى على البشر فحسب، بل وعلى الكائنات الحية جميعا دون استثناء: إنها «قوانين التعلم» وأن تلك القوانين تحكمها قاعدة أساسية أشبه بالدستور هى قاعدة «الثواب والعقاب»: لا حياة لسلوك دون ثواب و لا استمرار لسلوك يؤدي بصاحبه إلى عقاب.
لقد عرف الإنسان منذ نشأته الأولى قيمة الثواب والعقاب فى تقويم السلوك: عقاب من يأتي فعلا «سيئًا» وإثابة من ينجز فعلًا «طيبًا». وسار البشر على هذا النهج فى تعاملهم مع بعضهم البعض عبر التاريخ البشري: تاريخ الأمم، والحضارات، والأجيال أيضًا. ولم يكن ثمة اختلاف قط على ذلك المبدأ: مبدأ الثواب والعقاب، فاتبعه الجميع أفرادا وجماعات، كبارا وصغارا. اتبعه الرؤساء فى التعامل مع مرؤوسيهم، واتبعته الدول فى إدارتها لعلاقاتها مع الدول الأخرى الصديقة والمعادية على حد سواء، بل إننا نتبعه جميعا فى ممارسة أنشطتنا اليومية.
غير أن الاختلاف، كان ومازال، حول الأسلوب الصحيح لتطبيق قانون الثواب والعقاب، بحيث يؤتى أفضل النتائج بأقل الأضرار، وأن تستمر تلك النتائج لأطول وقت ممكن. وفى هذا المجال تباينت آراء الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ. وقد أسهم علم النفس الحديث، وبخاصة نظريات التعلم، فى إثراء هذا الجدل المستمر.
لقد مكنتنا نظريات التعلم، بمختلف توجهاتها النظرية والفلسفية، من التوصل إلى كم هائل من القوانين التفصيلية الدقيقة التى تحكم عملية التعلم: قانون المحاولة والخطأ trial and error، وقانون الاستبصار insight، وقانون التعزيز reinforcement، وقانون التشريط conditioning، وقانون الكف inhibition، إلى آخره. ولسنا بصدد الخوض فى التفاصيل الفنية لتلك القوانين العلمية. ما نود الإشارة إليه هو أنه رغم صحة فعالية تلك القوانين جميعا، فإن اختيار الأسلوب الأمثل لتطبيقها، مازال مثار جدل شديد.
ولعل أولي القضايا المثيرة للجدل فى هذا المجال، هى التأكد من أن العقاب مؤلم حقا، وأنه مؤلم للمخطئ تحديدا، و إلا فقد فعاليته، بل لعله يؤدى إلى عكس المقصود منه.
كثيرًا ما أصادف أبًا أو أمًا أو مديرًا أو قائدًا، يشكو من أن العقاب لم يعد مجديًا مع شخص معين، بل إن العقاب يؤدى إلى العناد وتكرار نفس السلوك المدان، ويحدث فى كثير من الأحيان أن أكتشف أن الشخص المقصود لم يكن فى حقيقة الأمر يتلقى عقابًا على الإطلاق، بل على العكس فإنه كان يكافأ مكافأة قد تكون كبيرة على سلوكه «الخاطئ»، ولم يكن من بد والأمر كذلك من أن يعود إلى هذا السلوك ليتكرر حصوله على المكافأة.
ولنتصور - مثلًا -طفلًا فى الثامنة يثير شغبًا فى الحصة، أثناء قيام المدرس بشرح الدرس. ينذر المدرس الطفل أكثر من مرة، ثم يقوم بطرده من الفصل باعتبار أن الحرمان من التعليم هو أقصى عقوبة ممكنة. هذا صحيح من وجهة نظر المدرس، وأيضا من وجهة نظر الأسرة. أما من وجهة نظر الطفل، فإنه قد غادر الفصل الضيق الذى يلتزم فيه بالبقاء مقيدًا إلى مقعده إلى حيث الهواء الطلق فى حديقة المدرسة، حيث لا قيود ولا التزامات. أليست هذه مكافأة ضخمة قد تدفع بالطفل إلى تكرار نفس السلوك. الأمثلة عديدة تفوق الحصر ولا تقتصر على الأطفال وحدهم، بل تشمل جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية أيضا. خلاصة القول إن العقاب لكى يكون مجديًا ينبغى أن يكون عقابًا من وجهة نظر من نعاقبه، أى أن يكون مؤلمًا، كريهًا، مرفوضًا بالنسبة له هو وليس بالنسبة لنا أو للمجتمع عامة.
وللحديث بقية.