الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

الأفكار لا تموت

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

[email protected]
كثيرة هي الأفكار التي تستفز وتهدد مشاعرنا الشخصية أو الوطنية أو الدينية أو الإنسانية، وكثيرًا ما ينتابنا الغضب ونتمنى لو لم تكن تلك الأفكار قد وجدت طريقها للتعبير أصلاً، ومن الطبيعي أن تتجه غضبتنا إلى من يحملون تلك الأفكار المستفزة؛ بحثًا عن سبيل للقضاء على ذلك التهديد، ونكون آنذاك حيال أحد سبيلين:
الأول: أن نقوم بتفنيد هذه الأفكار ومناقشة أصحابها علنًا؛ سعيًا لإقناعهم، وتحصينًا لأنفسنا ولغيرنا من غوايتهم؛ وهو الأمر الذي يتطلب أن نكون أولاً على يقين من تماسك وصحة أفكارنا، وعلى يقين كذلك من قدرتنا على الدفاع عنها، فضلاً عن اكتسابنا مهارات الحوار اللازمة، وكلها أمور تحتاج جهدًا في دراسة أفكارنا ودراسة أفكار الآخرين أيضًا والقبول بعرضهم العلني لأفكارهم.
الثاني: أن نوفر على أنفسنا كل ذلك العناء ونختصر الطريق بإقامة سدود التحريم والتجريم؛ للحيلولة دون انتشار تلك الأفكار، متخلصين من ضجيج الحوار وتجاوزاته؛ فإذا ما اكتشفنا استحالة ذلك؛ فلنحاول التخلص ممن يحملون تلك الأفكار، مؤملين أن تختفي الفكرة باختفاء أصحابها.
ويكفي أن نتأمل التاريخ ليتضح لنا أن المؤسسات، والنظم، والتنظيمات، لا بد أن تنتهي يومًا، بل ويمكن إنهاؤها عمدًا، وأن الأفراد جميعًا إلى زوال، أما الأفكار فإنها تتجدد وتتطور، وقد تتجمد وتنغلق، وقد يعلو صراخها أو يخفت همسها، لكنها أبدًا لا تموت، حتى ولو مات أصحابها أو قتلوا أو غيبوا وراء الأسوار. تتساوى في ذلك أشد الأفكار سخفًا مع أكثرها رقيًّا؛ تستوي في ذلك العقائد الدينية والوثنية والإلحادية، والأفكار النازية والشيوعية والصهيونيّة والاشتراكيّة... إلى آخره.
لقد مارس البشر على مدى التاريخ محاولات الإبادة الفردية والجماعية لأصحاب الأفكار المرفوضة، من المحارق الهتلرية، إلى المنافي السوفييتية، فضلاً عن معسكرات التعذيب في العديد من الدول. شهدنا إعدام آلاف المهرطقين والمرتدين والزنادقة من المسيحيين والمسلمين واليهود.
ألم يسأل أحد نفسه: ترى هل انتهت أي من الأفكار التي جسدها هؤلاء؟ ألم يواجه أحد نفسه بحقيقة أن التعذيب والقتل يولد فكرًا وممارسة أشد عنفًا؟ ألم تخرج الصهيونية من رحم معاداة اليهود والمحارق النازية؟ ألم تسهم منافي سيبيريا في انهيار الاتحاد السوفييتي في النهاية؟ ألم يخرج فكر سيد قطب، ثم فكر أيمن الظواهري، من رحم معسكرات التعذيب؟ هل انتهى الفكر الشيوعي بمقتل شُهدي والحلو وحداد وجيفارا؟ هل انتهت الأفكار المجترئة على الأديان بالتخلص من آلاف المهرطقين والمرتدين والكفرة والزنادقة؟ هل انتهى الفكر المقاوم الفلسطيني باختفاء ياسين وأبي جهاد ورفاقهم؟
إن تعرض الأفكار للتداول المفتوح في الشمس والهواء هو السبيل الأوحد لفرزها؛ بحيث تذبل وتتوارى الأفكار غير القابلة للحياة، وتبقى في ساحة الصراع الفكري تلك الأفكار القادرة على البقاء. إن محاولة الحفاظ على فكرة معينة وإبقائها بعيدًا عن التفنيد بحجة حمايتها من تهجمات وتجاوزات الآخرين؛ أشبه بالاحتفاظ بجسد ميت موصول بأجهزة التنفس الصناعي، ما أن تتوقف تلك الأجهزة الصناعية عن عملها حتى يدب إليه العفن، وهي لا بد متوقفة يومًا وإن طال الزمن.
ترى ألم يحن الوقت بعد لندرك أن الحماية الحقيقية لأفكارنا ومعتقداتنا الدينية والسياسية والاقتصادية على حد سواء إنما تتمثل في تعريضها للهواء والشمس، والدفاع عنها فكريًّا حيال نقد الآخرين لها مهما كان التجاوز والاجتراء؟ ألم يحن الوقت بعد للتسليم بحقيقة أن العنف مهما كانت مبرراته لم ينجح قط في حماية أية فكرة مهما كانت قداستها؟ ألم يحن الوقت بعد للتسليم بأنه مهما بلغ يقيننا بصحة أفكارنا فإن ذلك اليقين لا يكفي وحده للحفاظ عليها وازدهارها؟