تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
-1-
كان عامي الرابع عشر يتجاوزني.. ومصر تستحم بدماء أبنائها في سيناء!! الظلام يلف النفوس والمكان، مقر منظمة الشباب الاشتراكي بالمنيا، قصر هدى هانم شعراوي، صورة عبد الناصر بجوار الست هدى على الحائط، شباب وشابات، يسلطون نظرهم نحو الشاشة البيضاء في صالة الطلائع، توقفت الأنفاس، عبد الناصر يُعلن التنحي، الجميع يصرخ في صوت واحد يحمل كل الآم وأحلام الثورة المجهضة: “,”لا يا ريس“,”، تدفعنا كمياه شلال إلى الشارع، لم نكن وحدنا، انبثق وعيي السياسي والإنساني في تلك الليلة، ولدت من رحم الهزيمة في 9/10 يونيو 1967.
-2-
كثيرون كتبوا عن ذلك الموقف.. تلك الظاهرة متعددة التفسير، الظاهرة الأبوية الشعبية، لكنَّ قليلين من ولدوا في تلك الليلة من عمق الجرح.
-3-
كانت مصر حينذاك، كما كتب عنها عبد الرحمن الأبندوي، وغنى عبد الحليم حافظ:
«عدّى النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر
وعشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر
وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها
جاها نهار مقدرش يدفع مهرها
أبدًا بلدنا للنهار
بتحب موال النهار
لما يعدّي على الدروب
ويغني قدام كل دار»
-4-
غاب كل شيء من ذاكرتي، وتبقّى حب الوطن المتجسد في جمال عبد الناصر، رغم كل ما يقال عن ناصر، ولكن محبته في القلوب أهم إنجازاته، عاد ناصر وأعاد بناء الجيش، والأهم أعاد بناء الروح في تلك الأمة المكلومة، في الصعيد، حيث ولدتُّ وترعرعت، كانوا يفهمون عودة ناصر على أنها عودة كبير العائلة للأخذ بالثأر للشهداء وللأرض وللثورة.
-5-
دار ذلك في مخيلتي وأنا أسمع حمدين صباحي يعلن باكيًا عن رغبته في الانسحاب من العمل العام والتيار الشعبي، وألا يرشح نفسه مرة أخرى للرئاسة، وما لم يعلمه حمدين أني أؤيده بشدة في ذلك الإحساس الضميري.. وأرفض أن يتحول هذا الشعور إلى قرار عملاً بشعوري كصعيدي.. لن يأخذ حمدين ثأر محمد الجندي وعمرو سعد وآخرين بالانسحاب من ميدان القتال.. ولو عاد الشهداء للحياة الدنيا لرفضوا ذلك القرار الصحيح ضميريًّا والخاطئ سياسيًّا، لأن عدم استمرارك في النضال هو هروب من ميدان القتال.
-6-
في حياة الإنسان مواقف كثيرة يتناقض فيها الإنساني مع السياسي، العبقري هو من يستطيع أن يضم جناحي الضمير والنضال سويًّا إلى أعلى.. يغرد بحثًا عن الحرية..
ومنذ زمن طويل -إبريل 1976- التقيت حمدين.. كان قائدًا ناصريًّا ورئيسًا لاتحاد طلاب جامعة القاهرة، وكنت في صفوف الحركة الاشتراكية (ماركسيَّا)، وكانت التناقضات تتسع بين الناصريين والماركسيين، ولكن الفتى حمدين كان له مكانة مختلفة في قلبي، تنبثق من قبس شعاع المحبة الذي ولد في قلبي تجاه عبد الناصر، عاش ناصر في ثنايا روحي، وسكن الفتى حمدين حشا الوطن..
وها أنا الآن.. أبكي عمرو سعد ومحمد الجندي، وأبحث عنهما في بريق دموع تنهمر على جبين الوطن الملكوم.. والأمهات الثكالى.. ولكن ليس بالانسحاب والتراجع والتنحي نعيد هؤلاء الشهداء إلى مرمى البصر، ونحتفل معهم في يوم الشهيد عند بوابة النصر بميدان التحرير.. فلم ينسحب ناصر بعد استشهاد عبد المنعم رياض، ولم أترك موقعي بعد استشهاد أعز الناس إلىَّ من تل الزعتر وحتى حصار بيروت.
-7-
الروح قوية والجسد ضعيف، ولكن الضمير أقوى، ومن أنين آلام محمد الجندي تحت التعذيب لا بد أن نستمد خيوط قوتنا المفتقدة، ونقاتل جنبًا إلى جنب بحثًا عن القتلة.. وأن نتسربل بالحلم بحثًا عن الحقيقة، وأن نضع رءوسنا على صدر الوطن وأمهات الشهداء بحثًا عن الثورة؛ حتى لا تتسرب مثل المياه من بين أصابعنا..
وحي على الكفاح.. حي على الفلاح.. وقد أقبلوا فلا مساومة.. والمجد للمقاومة.