تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
قبل ستة سنوات وفي زيارة سريعة للخرطوم رأيته.. ذلك العملاق الزاهد، العسكري الأبيض، الوطني القانع الفريق عبد الرحمن سوار الذهب.
كان الرجل وقد تجاوز الثمانين من عمره متجنبا للظهور، ومتهربًا من الأضواء، ملتحفًا بعزلته، متفرغًا للعبادة، وقتها سعيت راجيا من السفير عبد الرحمن الشاذلي سفيرنا السابق في الخرطوم أن يدبر لي موعدًا مع الرجل، اتصل الرجل بالفريق سوار الذهب الذي اعتذر عن أي لقاء صحفي، لكنه أمام إلحاحي وافق على ألا أنشر نص الحوار.
في مسجد نائي بالعاصمة السمراء، وبعد صلاة العصر كان اللقاء، اصطحبني حارسه الخاص إلى رجل فارع الطول، يلبس جلبابًا أبيض وعلى رأسه عمامة لا تفرقه عن باقي السودانيين، نحيل كنخلة عتيقة، هادئًا كشجرة صبار، ووقور كضريح الأولياء.
صافحني بترحاب واعتذر لي أنه التزم بعدم الحديث مع أي صحف أو فضائيات؛ لأنه اختار التعبد وتفرغ له، قال لي إنه فعل ما تعهد به وخرج من السلطة قبل أن يلتصق حذائه أي من أوزارها، أخبرني أن كرسي الحكم في أي دولة ومع أي شخص مغرٍ وفتّان، وكثيرًا ما يغيّر من أخلاق الجالس عليه، ذكرني بعبد الملك بن مروان العابد الزاهد الذي عاش نصف عمره تقيا وورعا، ولما جاءته السلطة أغلق مصحفه وقال: إنه آخر عهدي بك، وحارب وقاتل وسفك الدماء من أجل العرش، حدثني عن الإسلام ومنهجه في خلع الأنداد، والرضا بالقضاء، وتجنب الشبهات.
في 1985 انتفض السودانيون ضد الديكتاتور المتأسلم جعفر نميري، كان الرجل قد ساق نصف معارضيه إلى السجن، بينما فر النصف الآخر هربًا من مصير موت غامض، أو إعدام بتهمة الزندقة مثلما جرى مع محمود علي طه، وزاد الظلام عمى بعد أن قرر نميري تقنين الشريعة، وتطبيق حدود قطع اليد والجلد، رغم أنه كان أكبر سارق وسكير.
كان نميري قد سافر إلى أوروبا، وخرجت المظاهرات في شوارع الخرطوم ضده تطالب بعزله، وقرر الفريق عبد الرحمن سوار الذهب وزير الدفاع الانسياق للشعب، واستولى على الحكم، وطلب مهلة لمدة عام لإجراء انتخابات ديمقراطية وتسليم السلطة، وأبر بما تعهد به وقتها تصور الجميع أن هذا الرجل “,”فلتة“,” ولا يتكرر، وأنه “,”ولي“,” من أولياء الله.
وعندما انقلب الفريق عبد الفتاح السيسي على نظام الإخوان استجابة لملايين الشعب المصري لمحتُ في عينيه بريق التضحية والفداء والوطنية، وتذكرت سوار الذهب.
إنني أتصور أن الرجل أسدى جميلاً عظيمًا للشعب المصري، ستعرف الأجيال التالية قيمته الحقيقية، لكنني ما زلت أرفض دعوات البعض- بحسن نية أو مآرب شخصية- لترشيحه رئيسًا لمصر، إن أجمل ما في الفريق السيسي أن عطاءه وتضحياته وتحمله للمسئولية كان بلا ثمن، ولا بد أن يبقى كذلك رمزا للعطاء والإيثار.
إن أجمل رد جميل لـ“,”السيسي“,” هو تنزيهه عن مسالك السياسة القبيحة التي يخسر كل من يسير فيها حتى الأنبياء، تشريف “,”السيسي“,” يعني ألا يترشح للرئاسة ولا يرشح أحدًا، ولا يتراجع تحت زعم “,”مطالب الجماهير“,” أو “,”رغبة الناس“,”.
إذا أردتم تخليد “,”السيسي“,” فساعدوه أن يكون “,”سوار الذهب“,” لا “,”جمال عبد الناصر“,”، والله أعلم.
مصطفى عبيد
[email protected]