سافرت إلى أسوان في رحلة سريعة للمشاركة في فعاليات ثقافية أقيمت هناك بحضور عدد من المثقفين المصريين يضمون أدباء وأطباء وإعلاميين وفنانين، وكانت فرصة لإحياء قيم مرتبطة بنيل مصر العظيم الذي ظلمته الأيام والسياسة، واعتدت على مياهه ملوثات وحوش الحضارة الحديثة، ورغم تخيلى أن النيل في اتجاه الشمال إلى المصب يصرخ احتجاجًا على كل هذه الانتهاكات لحرمته وقدسيته، وهو الذي ظل مرتبطًا آلاف السنين بالحضارة الإنسانية الأولى، وجدت نيل أسوان مختلفًا يحتفظ بنقاوته وبراءته ومذاق مياهه الفريد، الذي إذا شربت منه مرة ستعود إليه مرة أخرى، هكذا قيل لنا وأدركت أن نيل مصر بخير كلما اتجهت جنوبا حتى وصلنا إلى نقطة تقع في منتصف المسافة بين خزان أسوان والسد العالى في جزيرة تسمى (هيصة)، ولا أعلم سبب هذه التسمية، وصعدنا مرتفعا حتى بلغنا قمته حيث يقام منزل نوبى قديم يحتفظ بعبق التاريخ ورونقه من خلال رسومات على جدرانه، وكأنه يريد أن يخبرنا أنه حفيد الفراعنة الأوائل الذين سجلوا تاريخهم على جدران معابدهم، وقد استقبلنا شاب يبدو كما لو كان قادمًا من لتوه من أحد معابد مصر الفرعونية لولا نظارته الطبية التي تؤكد أنه ينتمى لعصرنا الحديث، وبالفعل كان مرشدًا سياحيًا من أبناء النوبة يجيد أربع لغات على الأقل يرتدى زيًا تقليديًا اختطلت سمرة بشرته بلون مياه النيل الممتد خلفنا منسابا بارتفاع ١٨٣ مترًا عن نقطة المصب، وفى الأفق يقف السد العالى شامخا عظيما يقول لنا حافظوا على نيلكم لأن ما يحتجزه خلفه في بحيرة ناصر من مياه يجب التعامل معها برفق وتحضر. وبعد غداء تميز بالكرم الحاتمى ضم مختلف أنواع اسماك بحيرة ناصر، تحدث الشاب عن تاريخ المنطقة وارتباطها بالحضارات المختلفة وأشار إلى قبة مسجد يرجع تاريخه إلى عهد الأمير بدر الجمالى، الذي بناه منذ أكثر من ١٢٠٠ عام، وقال إن النوبة مصرية وهى مكان يعبر عن ثقافة حافظت على علاقة الارتباط بين أفريقيا ومصر عبر التاريخ، ولم تكن النوبة قومية أو أقلية إنما إقليم يربط بين مصر والسودان، فهو يجمع بين العادات المصرية والسودانية، ما يؤكد وحدة شعبى وادى النيل ويدعونا إلى التفكير مليا في إحياء فكرة التكامل بين البلدين اللذين كانا بلدًا واحدًا لكن الاستعمار حال دون ذلك، وروى لى أحد رفقاء الرحلة أن الإنجليز عندما فكروا في مد سكك حديدية في مصر والسودان حرصوا على أن تكون السكك الحديدية في السودان أضيق من مثيلتها في مصر للحيلولة دون وصلهما بين البلدين، ومع ذلك هناك طريق برى، إضافة إلى العبارات التي تبحر بين مصر والسودان في بحيرة ناصر، وأرى أنه من الضرورى أن تهتم الحكومة بالمنطقة خاصة إقليم النوبة من حيث إعادة توطين أهالينا في النوبة في مناطقهم الأصلية وتوفير الخدمات التي تساعد على التنمية بكافة أشكالها والاستجابة لمطالبهم في عدم الاعتداء على النيل بمنع رمى المخلفات فيه وتغليظ العقوبة في هذا الشأن، لأن النيل هو الحياة بالنسبة لهم وأرى أنه الحياة لكل المصريين، ولا بد أن ننحى نظرية المؤامرة التي يكرسها البعض لتأجيج نزعة انفصالية غير موجودة أصلا لدى النوبيين، وفى المقابل يجب تنحية عقدة الاضطهاد التي يشعر بها بعض النوبيين من التهميش وعدم الاهتمام، والأمران مرفوضان، حتى نفوت الفرصة على الذين يحاولون الاصطياد في الماء العكر من هؤلاء الكارهين لمصر واستقرارها، ومن هنا يصبح من الضرورى الاهتمام بتنمية صعيد مصر.
إن الجنوب ما زال يحتفظ بالكثير من براءته وعذريته، فمن باب أولى أن يجرى تطويره، وهى ليست مشكلة النوبة فقط ولكن هي مشكلة الصعيد ككل والمناطق النائية بشكل عام حتى لا يظن البعض أن مصر هي العاصمة وإقليم الدلتا فقط، ويصبح مستقبل مصر في قدرتنا على تنمية هذه المناطق مثل إقليم النوبة والصعيد وسيناء والوادى الجديد.
alyelsamman@adicinterfaith.org
إن الجنوب ما زال يحتفظ بالكثير من براءته وعذريته، فمن باب أولى أن يجرى تطويره، وهى ليست مشكلة النوبة فقط ولكن هي مشكلة الصعيد ككل والمناطق النائية بشكل عام حتى لا يظن البعض أن مصر هي العاصمة وإقليم الدلتا فقط، ويصبح مستقبل مصر في قدرتنا على تنمية هذه المناطق مثل إقليم النوبة والصعيد وسيناء والوادى الجديد.
alyelsamman@adicinterfaith.org