تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
عبر قرون طويلة تسللت الإسرائيليات إلى تراثنا، ودأب بعض المحققين على تخليص التراث الدينى والتاريخى من تلك الإسرائيليات التى علقت به والتى اتخذت من الرواة مدخلا لها، حيث إن معظم تراثنا لم يكن يعتمد على الكلمة المكتوبة، وإنما انتقل عبر رواة وحفاظ، كان ذلك فى الماضى وبفضل العلماء المخلصين تمت تنقية بعض ـ نقول بعض ـ الكتب التراثية ولا سيما الكتب الدينية، ولكن من الغريب أن تتسلل أيضا الإسرائيليات إلى حياتنا الثقافية المعاصرة، ونحن نعلم ما فيها من سم يدس فى العسل لنتجرعه، ونحن سعداء بمذاقه اللذيذ، والقصة تبدأ بكتاب قرر علينا عندما كنت أدرس فى قسم النقد والدراما بالمعهد العالى للفنون المسرحية فى منتصف الثمانينيات، وهو كتاب دراسات فى المسرح والسينما عند العرب تأليف يعقوب لنداو، وترجمة أحمد المغازى والمنشور فى عام ١٩٦٩، ولم يلتفت أحد الأساتذة أو الطلاب إلى جنسية صاحب الكتاب، والذى عرف إنه إسرائيلى يقوم بالتدريس فى الجامعة العبرية بالقدس، والغريب أن هذا الكتاب الذى صدر فى أوج فترات الصراع العربى الإسرائيلى، تتصدره كلمة للمترجم يقول فيها فإن تقديرى للكتاب ومؤلفه وإعجابى الشديد بالدرب الطويل الشاق، الذى سلكه مؤلفه بروفيسور يعقوب.م لنداو لم يفتر أبدا، فقد كنت أشعر فى كل صفحة منه كيف يضنى نفسه بالبحث ليتحقق من مستخلصاته ويدعم من تحليلاته، وعلى استحياء يقول المترجم فى مقدمته المشكلة فى الواقع هى أن نفرق بين العلم وبين المواقف الشخصية. فالعلم للعالم والمواقف الشخصية لأصحابها، فالآخرون قد يفهموننا أكثر مما نفهم نحن أنفسنا، «والسؤال الذى نطرحه على المترجم هل العداء وقتذاك بيننا وبين إسرائيل هو موقف شخصى، وإذا أخذنا التاريخ هل لنا أن نأخذه من إسرائيلى؟ وللأسف الشديد وبمرور الوقت أصبح هذا الكتاب من أهم المراجع التى يعتمد عليها طلاب معهد الفنون المسرحية ثم تخطى الطلاب وأصبح مرجعا أساسيا لكل من يكتب عن تاريخ المسرح العربى أو السينما، ومن شديد الحزن أن المعلومات التى ساقها لنداو تؤخذ الآن على أنها من المسلمات غير القابلة للنقاش، مع أنها مجرد آراء تصل بعضها إلى التفاهة، حيث إنها لا تستند إلى حقائق تاريخية، فالبروفيسور الذى يمتدحه المترجم يقول فى أول صفحة من صفحات كتابه، وهو يفند أسباب عدم معرفة العرب للمسرح «وأن المرأة وخاصة إذا كانت متدثرة فى حجابها، باتت ممنوعة بشدة من الظهور على خشبة المسرح»، والرد على هذا يكمن فى أن المسرح قام فى الدنيا كلها من غير نساء، فمنذ الإغريق إلى نهاية القرن الخامس عشر، لم تشارك المرأة فى الأداء التمثيلى، وكان الرجال يقومون بالأدوار النسائية، ثم يعرج بنا لنداو إلى رأى يريد إثباته، وهو أن اليهود قد عرفوا المحاكاة التى هى أساس المسرح قبل العرب، وذلك فى أعياد(الفوريم)، وهى الأعياد التى يحتفل بها اليهود بذكرى فشل مكيدة هامان، والبروفيسورالعبقرى يتحدث عن الطقوس التى تقام فى شهر المحرم ويقول بمنتهى الجهل إن هذه الاحتفالات تقام إحياء لذكرى مقتل الحسن والحسين، والسؤال ما علاقة الحسن بكربلاء؟ ومن المؤسف أن المترجم لم يضع تعليقا يوضح فيه حقيقة أن الحسن قد مات بعيدا عن كربلاء، وعبر صفحات الكتاب يحاول المفكر الإسرائيلى أن يثبت للقارئ أنه لا يوجد أى شىء أصيل عند العرب، فخيال الظل نقل من الشرق الأدنى عبر التتار، مع أن ابن دانيال وهو رائد هذا الفن قد فر إلى مصر أثر غزو التتار لبغداد، أى أن العرب عرفوا هذا الفن قبل قدوم التتار، أما الأراجوز، فيرى لنداو أنه قد نقل عن الصين وتركيا، وبكل جرأة يسوق المؤلف بعض العبارات العارية تماما عن الصحة. فعلى سبيل المثال يقول: «عندما أخذ سليم الأول فرقة عارضى خيال الظل إلى إسطنبول ولا أدرى إلى أى مرجع تاريخى عاد لنداو ليقرر هذا. فمن المعروف أن سليم الأول قد اصطحب معه الصناع المهرة من نجاريين ونحاتين وبنائين، ولكنه لم يصطحب فرقة لخيال الظل كانت تطاردها الحكومات السنية، لأنها تتناول موضوعات شائكة كالشذوذ وغيره، ثم نأتى إلى العبارات التى دسها لنداو فى كتابه وباتت مع الأيام حقائق تاريخية رسختها الرسائل العلمية، ألا وهى أن «يعقوب صنوع» هو مؤسس المسرح المصري، وهذا ما سوف نتحدث عنه فى لقائنا القادم.