تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
"إيناس" من القلائل الذين لا يغيرون كلامهم ولا يقولون إن كلامهم فهم بالخطأ أو تم اجتزاؤه من سياقه، بل تصر على كل كلمة قالتها! شجاعة لا تتوفر لغيرها من أصحاب الدعوات الضالة والمثيرة للجدل.
ظل تجميع البشر تحت قيادة مركزية يستند إلى مرجعية فكرية واحدة وهمًا يداعب الفكر الإنسانى منذ بداية التاريخ، ولم يكف البشر عن محاولة تجسيد هذا الوهم حتى يومنا هذا، سعيا لخلق عالم مثالى نموذجى ينعم البشر فى ظله إذا ما تحقق بأقصى قدر من الرفاهية والسعادة.
ويفيض التاريخ البشرى بما لا حصر له من بحور الدماء التى سالت لتجسيد مثل ذلك الحلم على الأرض فى صورة الدولة العقائدية، أى تلك الدولة التى تقوم على تصور نظرى مسبق اكتملت صياغته من قبل، وتظل الدولة ملتزمة بها أو محاولة ذلك خلال ممارستها العملية لدورها.
ورغم أن الحلم بعالم أفضل هو القوة المحركة لأى تقدم إنسانى، أو تغيير اجتماعي، فإن الأمر يصبح مأساة حقيقية حين تتحول الدعوة إلى تحقيق ذلك العالم المثالى المنشود من الكلمة والإقناع إلى القهر والإجبار ومحاولة دفع البشر قسرًا وسوقهم بالسلاسل إلى تلك الجنة الموعودة.
يشهد عالمنا المعاصر تزايدا ملحوظا لأفكار وممارسات ترفع رايات ذلك الحلم القديم بتوحيد العالم: الولايات المتحدة تسعى لتوحيد العالم أو عولمته ولو اقتضى الأمر خوض حروب دامية، كما نشهد تصاعدا لجماعات إسلامية هدفها البعيد المعلن منذ انهيار دولة الخلافة العثمانية يتمثل فى السعى إلى إقامة «الدولة الإسلامية» التى قد تختلف الرؤى وتتباين حول تفاصيل ملامحها؛ ولكنها تتفق على كونها دولة عقائدية عالمية ذات قيادة مركزية.
ولعله من المناسب والأمر كذلك أن نعرض فى عجالة لأهم نموذجين تاريخيين فى هذا المجال، كان كلاهما تجسيدا لمفهوم الدولة العقائدية، رغم أنهما يقفان على طرفى النقيض من حيث المنطلقات الفكرية: دولة الخلافة الإسلامية، ودولة الاتحاد السوفييتى الماركسية. وأوجه تناقضهما الفكرى غنية عن البيان، أما أهم أوجه التشابه فتتمثل فيما يلي:
أولا: العالمية
شهد تاريخنا الإسلامى منذ حقبة مبكرة، جدلا فكريا شديدا حول تحديد معالم هوية المسلم الحق التى تميز بينه وبين غيره: ترى هل يكفى الاقتناع والتسليم أم أنه لا بد من بيعة وجهاد ودولة وخليفة؟ هل يمكن الاكتفاء بإقامة دولة إسلامية فى حدود قطر واحد فحسب؟ أم أنه ينبغى السعى لتشمل مظلة الخلافة البشر جميعا؟ وهل الانتماء الإسلامى ينبغى أن يتخطى حدود الانتماء القومي؟ واستند المجادلون جميعا إلى فهمهم أو تأويلهم لنصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة.
وكان الأمر شبيها بذلك فيما يتعلق بالماركسية السوفييتية التى انطلقت من أرضية مناقضة للديانات السماوية، إذ واجهت أسئلة شبيهة: ترى هل يكفى الاقتناع بالفكر الماركسى أم أنه لا بد من التنظيم الشيوعى والسعى إلى السلطة؟ هل يمكن إقامة هذه السلطة فى حدود دولة واحدة أم المطلوب استمرار الثورة إلى أن ينجح عمال العالم فى إقامة دولتهم العالمية؟ هل الالتزام الماركسى ينبغى أن يتخطى حدود الالتزام القومي؟ واستند الجميع إلى فهمهم وتأويلهم لما قال به المؤسسون الكبار للنظرية.
ثانيًا: وحدة مركز القيادة
أقام الماركسيون تنظيما أمميا عالميا اتخذ من موسكو مركزا لقيادة عملية التوحيد، وكان منطقيا أن تكون للكرملين الكلمة العليا فى ذلك التنظيم الأممي، وفى اختيار قادته وممثليه فى العالم؛ ولم يكن ذلك بالأمر المستغرب باعتبار أن الانتماء للماركسية يعلو غيره من الانتماءات القومية «الشوفينية».
وبالمقابل فقد تمثل السعى الإسلامى فى إقامة دولة الخلافة الإسلامية التى تنقلت مراكز قيادتها بين مكة ودمشق وبغداد والقاهرة إلى آخره، ولم يكن حكام أقاليم الخلافة الإسلامية من مسلمى الأقاليم المفتوحة طوعا أو غصبا، بل من أصحاب الفتح عربا كانوا أو أتراكا، وكان ذلك أمرا ملفتا فلو سلمنا بأن الانتماء للعقيدة الإسلامية يعلو على غيره من الانتماءات القومية «الشعوبية»، لما كان هناك ما يمنع شرعا من أن يتولى ولاية مصر مثلا مصري مسلم أو على الأصح مسلم مصري.
ثالثا: الاتهامات بالزندقة والمراجعة
فى ظل الحرص على وحدة الدولة العالمية فكرا وممارسة، لم يكن من بد للتصدي بمنتهى الشدة التى تصل إلى حد القتل لمن يهدد تلك الوحدة، ومن ثم فقد انهالت الإدانات بالمراجعة والردة والخيانة بل والعمالة على كل من يخرج على التأويل الرسمى السوفييتى المعتمد للنظرية الماركسية محاولا تفتيت وحدة الصف الشيوعي، كما انهالت إدانات مماثلة بالزندقة والردة والتحريف على كل من يخرج على التأويل المعتمد من مقر الخلافة للقرآن الكريم والسنة المطهرة. وطالت تلك الاتهامات من كانوا يحتلون مراكز الصدارة فى المشهد الماركسى من كاوتسكى وتروتسكى إلى ماوتسى تونج إلى تيتو وجارودي، ولم تختلف تلك الاتهامات فى جوهرها كثيرا عن تلك التى وجهت إلى العديد من رموز الفكر وقادة العمل الإسلامي.