تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ويمضى د. نصر ليطالع معنا كتاب زكى نجيب محمود «المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكري»، وتقوم فكرة الكتاب على دراسة بنية «التأويل» فى كتاب الغزالى «مشكاة الأنوار» فينقسم تاريخ التراث إلى أربع مراحل كما يقسم الغزالى دلالة النور إلى أربعة مستويات تنتقل من العام إلى الخاص، ومن الحسى إلى العقلى ومن العقلى إلى الخيالى ومن الخيالى إلى الروحي، ويرى أن تاريخ التراث ينقسم إلى مراحل «المرحلة الإدراكية» وهى مرحلة الصراع السياسى حول الخلافة، والمرحلة الثانية هى مرحلة انبثاق الجماعات الفكرية كالمعتزلة والمرجئة، والثالثة هى وهج الترجمة والفلسفة والرابعة هى مرحلة.. النهوض الشامل.
ثم هو يلوم زكى نجيب محمود لأنه لم يضف شيئا جديدا للتقسيم المعروف والمتداول (ص٨١). وينتقل نصر بنا إلى كتاب آخر لزكى نجيب محمود هو «تجديد الفكر العربي» لينتهى إلى أن التراث لا يحل مشكلة واحدة من مشكلاتنا التى يحصرها فى ثلاث مشكلات هى:
١- الحرية بأبعادها السياسية والاجتماعية وحرية المرأة.
٢- مشكلة الدخول فى عصرى العلم والصناعة وهى مشكلة يحيلها زكى نجيب محمود إلى طبيعة الثقافة العربية التى هى ثقافة لغة فى الأساس.
٣- مشكلة الوحدة العربية والقومية العربية. ثم يمضى د. نصر ليقلل من شأن هذا التحليل ويقول «هذه النتيجة الفاجعة لمسألة التراث لم يتوقف زكى نجيب محمود أمامها طويلا، ولم يتأملها تأملا كافيا، لأن العودة للتراث كانت بمثابة العودة إلى الملاذ، إنها عودة عاطفية فرضها موقف الهزيمة الشامل، ولأنها موقف عاطفى فهى فى منطقة خارج التأمل والاستبصار، إنها القناع الذى يخفى الذل والمهانة» ثم هو يكمل وبشكل حاد «لذا فقد تحول مشروع النهضة إلى أزمة مثقف» (ص٨٢).
لكن د. نصر لا يلبث أن يجد عدوا أشد قسوة هو د. محمد عمارة الذى هاجم بدوره زكى نجيب محمود متهما إياه بأنه «يخرج الدين بالكلام من منطقة التعقل التى تقبل الصواب والخطأ إلى منطقة الوجدان الخاصة بكل شخص على حدة بما يميل إليه قلبه وترتاح إليه نفسه، دون أن يكون هناك مجال لأن نعتقد بأن هناك من هو صواب على عقيدته ومن هو على خطأ».
ويرد نصر أبوزيد بقسوة على محمد عمارة قائلا: «إن هذه المحاكمة تمثل سلوكا مرفوضا فالعقيدة محلها القلب»، ثم يقول «إننا هنا فى مجال تحليل ظاهرة إصرار البعض على اعتبار أنفسهم المتحدثين الوحيدين باسم الإسلام، وعلى اعتبار أن من يختلف مع أطروحاتهم وآرائهم خارج عن الملة ومشكوك فى عقيدته، خاصة أن عمارة قال فى مفتتح مقالته «عندما نتحدث عن د. زكى نجيب محمود فإننا باعتبارنا إسلاميين ننظر إليه من حيث مواقفه الفكرية من الإسلام التى تتحدد على أساسها أهمية فكره وخطره». ويتعجب نصر من أن عمارة يتحدث بصيغة الجمع وهى صيغة تعلق مسئولية الإسلام فى رقبة «جماعة» بعينها تستأثر وحدها بصفة الإسلاميين، وهذه الصفة تجعل من فهم الإسلام وتفسيره حقا مقصورا على أعضاء تلك الجماعة، «بحيث يعد أى فهم أو تفسير صادر عمن هو خارج الجماعة تحريفا أو إلحادا وكفرا والعياذ بالله».
ويمضى د. نصر قائلا «من الضرورى تبيان أن لفظ الإسلاميين المتداول يشير إلى جماعة سياسية تمارس فاعليتها تحت يافطة الإسلام.. وهم فى مواجهة الجماعات السياسية الأخرى يتمترسون جميعا خلف «الإسلام» ويستخدمونه جدارًا حاميا وأداة أساسية فى الحشد السياسي». ثم يصل د. نصر إلى مبتغاه فيقول «هذا الخلط بين السياسى والفكرى (الفكر الدينى بصفة خاصة) يحول السياسة إلى دين ويجعل من الأحكام السياسية أحكاما دينية، وهذا يفضى فى نهاية الأمر إلى أحكام بالكفر والردة»، ثم «إن البعض منهم حاول أن يربط بين ما يعتبره ردة خيانة وطنية. وبهذا يخلطون بين الأمرين: حرية الإنسان فى اختيار دينه وهى الحرية التى أقرها الإسلام فى نصوصه الأساسية وبين الخيانة الوطنية، لكن الأخطر فى هذا الخداع والتلاعب بالتسوية بين «الردة» و«الخيانة الوطنية» أنه يعنى الإقرار الضمنى بجعل الدين وطنا، فى حين أن الدين إذا تحول إلى وطن يصبح من حق الأقليات الدينية الاستقلال داخل أوطانها الخاصة، وهو ما يؤدى إلى تمزيق الوطن ذاته» (ص٨٥).
ويمضى د. نصر فى مطاردة محمد عمارة فيقول «إن عمارة شديد الحساسية لكلمة «عقلي» شأنه شأن معظم أقرانه، فهو يعيب على زكى نجيب محمود التعامل مع التراث كتراث عقلي. وكأنه يمكن التعامل مع التراث بوسيلة أخري. فالتراث نتاج عقلى أنتجته عقول بشرية، وليس وحيا من عند الله، ومن الطبيعى أن يتعامل معه الباحث بوصفه نتاجًا عقلًيا، وليس من الضرورى أن يكون هذا التراث متماثلا مع أساسه الديني، فاختلاف الفرق والجماعات عبر عن نفسه عن طريق التأويل بما يعنى اختلاف التصورات حول العقيدة» (ص٨٧).
ولم نزل نسعى مع د. نصر حامد أبوزيد الباحث أبدا عن الحقيقة. فإلى لقاء.