تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
تتسابق الصحف والقنوات الفضائية والمواقع الإخبارية، وصفحات التواصل الاجتماعى في نشر ما تدعى أنه معلومات حصلت عليها من جهات سيادية، في لحظة واحدة تكتشف أن مصر ليست فيها جهة سيادية واحدة، ولكن أكثر من جهة، ولكل جهة أذرع وقنوات وأدوات ووسائل، تتسرب عبرها معلومات، بعضها دقيق، وبعضها مبتور، بعضها صحيح مائة في المائة وبعضها خيال، مجرد خيال لا قيمة له، ولا عائد من ورائه.
يمكن أن أشرككم في واحدة من أهم مآسى مهنة الصحافة.
يعمل الصحفيون المصريون الآن في حالة أقل ما يطلق عليها أنها حالة سيولة سياسية، وللأمانة وحتى لا يزايد أحد على ما نقول، هي حالة ممتدة من سنوات عصر مبارك الأخيرة، ولعلكم تذكرون التوريث، الذي كان الصحفيون المشغولون به من فرط حالة الإنكار لهم من قبل دوائر السلطة المختلفة، يعتقدون أنهم يتحدثون عن أسطورة لا وجود لها، رغم أنهم يدركون تمامًا أن الخطة موجودة والعمل دوّار.
إنكار السلطة لمسألة التوريث في نهايات عصر مبارك، جعل صحفيا كبيرا هو الكاتب الرائع عبد الله السناوي يقول لى يوما: تصدق إحنا في ورطة كبيرة، ولما سألته: ليه؟ قال: ظللنا نقول للسلطة سيمر سيناريو التوريث على جثتنا، صنع الكثيرون مجدا من معارضتهم لهذا السيناريو، طالبوا السلطة بأن تتحدث، وأن تنفى، وأن تقول إنه لا يوجد توريث، ولما نطقت السلطة، وقالت: مفيش عندنا توريث، قال الكتاب المعارضون: لا طبعا فيه توريث.
كان السناوى في واحدة من تأملاته السياسية، يرى أن هناك شلة منتفعين في الصحافة والسياسة من وضعية جمال مبارك، فإذا لوحت السلطة بأن هناك توريثا، قالوا لن يمر إلا على جثثنا، ولما تنفى السلطة، يخرجون للتأكيد أن هناك توريثا، وهكذا تمضى اللعبة، السياسيون يعملون والصحفيون يتابعون، وكل يحقق هدفه ومصلحته.
■ ■ ■ ■
بعد الثورة اختلط الحابل بالنابل، لا تعرف أين الحقيقة، وكدت أن أصل لقناعة تقول إنه لا شىء اسمه الحقيقة على الإطلاق.
كان الإعلام لاعبا أساسيا في سنوات ما بعد ثورة يناير، لم يكن مجرد أداة يحركها من يملكون المعلومات، ولما فطن الإخوان وأتباعهم لذلك، حاولوا حصاره وخنقه وإرهاب من يعملون فيه، لكنه صمد حتى كان سببا رئيسيا في إخراجهم من السلطة.
■ ■ ■ ■
فيما بعد ٣٠ يونيو، لم يكن الإعلام لاعبا أساسيا فقط فيما يحدث على الأرض، بل كان سندا، وعمودا فقريا في المواجهة التي جرت مع الجماعة الإرهابية، وكل من وقف في صفها، أدرك الإعلام أنه أمام معركة حياة أو موت، فنزل الحرب دون أن يبحث عن مكاسب، ودون أن ينتظر من يطلب منه أن يكون سيفا قاطعا لرقاب كل من يريدون شرا بهذا البلد.
لم يخضع الإعلام المصرى لمن أرادوا ابتزازه، هؤلاء الذين في نفوسهم غرض، ويتحدثون عن الموضوعية والحياد، خاض معركته بما توجبه عليه المصلحة الوطنية، فعندما يتعرض الوطن لخطر، لا تحدثنى كثيرا عما يجب أن يفعله الإعلام، لأنك وقتها إما أن تختار موقع المقاتلة، وإما أن تقف في مساحة الحياد، وهى المساحة التي تصل بك مباشرة إلى المساحة الأكبر في الجحيم.
■ ■ ■ ■
الآن وبعد أن أصبح هناك رئيس منتخب، يستمد شرعيته ممن اختاروه، ووقفوا إلى جواره بداية من مطالبته بأن يكون غوثا لهم، ونهاية بتأييدهم المطلق له، من حق الإعلام أن ينظر إلى نفسه كشريك في كل ما تحقق على الأرض، وهى نظرة لا يبغى الإعلام من ورائها مكاسب، ولا ينتظر عائدًا.
يبغى الإعلام من بين ما يبغى ألا تتم محاصرته من جديد، إشارات بتشريعات جديدة في الطريق، يقولون إنها لضبط الأداء الإعلامي، وهناك من يشير إلى أن الرئيس شخصيا يقف وراء هذا المشروع، وإشارات أخرى يجتهد أصحابها في التأكيد أن هناك محاولة لإنتاج نخبة إعلامية جديدة، فلابد أن تختفى الوجوه القديمة، لتحتل وجوه أخرى مكانها.
الإشارات الثالثة لدينا ما يؤكدها على الأرض، فهناك أزمات متلاحقة تحاصر الإعلام بكل أشكاله، صحف تواجه إضرابات، وقنوات تعلن للعاملين فيها أنها على شفا الإفلاس، ومشروعات عالمية يتم اغتيالها على الأرض قبل أن تبدأ أو تظهر إلى النور، وكأن هناك حالة عداء بين جهات بعينها وبين الإعلام.
اللعب في الإعلام ليس في صالح أحد على الإطلاق، إنه قوة مثله مثل الجيش والداخلية، والشعب الذي يعلن تأييده للنظام في الشوارع رغم ما يراه أو يعانيه، قد تكون هناك رؤية بعينها تريدها جهة بعينها، وتسعى إلى تطويع الإعلام لها، وهو من حق هذه الجهة أيا كان اسمها، وأيا كان اعتقاد من يديرونها، لكن هناك ما يجب أن يكون واضحا أمام الجميع.
فعليًا لم يعد الإعلام في طوع أحد، ففى زمن الفضاءات المفتوحة التي بلا رقيب، لا يمكن أن تضع لجاما على فم إعلامك، ثم تطالبه بأن يخوض إلى جوارك معارك مصيرية، المواجهة صعبة، ومن المستحيل أن تدفع إعلاما كسيحا، ليواجه غولا له ألف ذراع، النتيجة ستكون السقوط التام.
قارن فقط بين ما فعلته اللجان الإلكترونية التابعة للإخوان المسلمين بعد تعيين المستشار أحمد الزند وزيرا للعدل، وبين ما فعلته وسائل الإعلام التقليدية، وهى وسائل مفروض أنها محسوبة على خط الدولة.
وضعت هذه اللجان عبر ما نشرته على مواقعها وصفحاتها بشبكة التواصل الاجتماعى، ما يمكن اعتباره قائمة أولويات، وبدلا من أن يفندها الإعلام المحسوب على الدولة سواء حكومى أو خاص، سقط في فخ التبعية، وردد ما قالته هذه اللجان، بل سقطت الأهرام نفسها عندما تبنت خطا هجوميا على الزند، وقالت فيه ربما ما لم تقله لجان الإخوان في حقه.
لا يستطيع الإعلام وهو يتحسس رأسه، ويشعر بالقلق، ويتحسب لكل كلمة يقولها، هل يمكن أن تغضب فلانا أو تحرج علانا، أن يخوض معارك شرسة لحماية هذا الوطن، إذا أردتموه في بيت الطاعة، فتحملوا أن يكون في بيت الطاعة لا يغادرها أبدا، لكن لا تنتظروا منه انتصارا في أي ميدان من الميادين.
عندما عمل الإعلام بحرية استطاع في أقل من عام، أن يساهم في كشف جماعة الإخوان المسلمين، وتعريتها وإسقاط رئيسها، ولو كان الإعلام مقيدا، لما استطاع حشد الناس في الشوارع من خلال فضحه للجماعة وللنظام الذي كان يعمل خادما للجماعة، لو كان الإعلام مقيدا، لما استطاع أن يتصدى لمحمد مرسي ويحوله إلى مجرد أراجوز، يستطيع أن ينال منه الناس في الشوارع، فقد كانت السخرية التي بدأها الإعلام من يوم مرسي الأول في قصر الاتحادية هي الطلقة الأولى التي أطلقت عليه.
هل تخاف دوائر معينة أن يتكرر السيناريو، أن يتحول الإعلام الذي ساند السيسى إلى قاتله؟
أعتقد أن هذه مبالغة مرفوضة، فالسيسى هو اختيار الإعلام المصرى في نسبته الأكبر، كما هو اختيار الشعب المصرى في نسبته الأكبر، قد تبدو من بعض الممارسات الإعلامية ما يقلق، لكن لا يمكن أن يتصور أحد أن يتحول إلى سلاح ضد دولة ما بعد ٣٠ يونيو.
لا يوجد أي مبرر للمضايقات التي يستشعرها الإعلام، الخوف الأكبر أن يتم إجبار الإعلام على الصمت، ساعتها يمكن أن يتحول إلى أداة هدم، ولن يقف في طريقه أحد.
هذا التاريخ وليس حكم السلطان.. الكلمة أقوى، لا يستطيع أحد أن يقهرها، أو يقف أمامها، ليس هذا تهديدا بالطبع، لكنه تذكير بما جرى.
■ ■ ■ ■
هل لى أن أقول شيئا أخيرا؟
أعتقد أنه من حقى تماما، فإذا كانت هناك جهة سيادية ترى أنها تعمل من أجل هذا الوطن، فلابد أن تتوحد جهودها، أن يقف أي صراع بينها، هذا إذا كان هناك صراع من الأساس، وحتى لو كان هناك ما يستوجب الصراع، فلا داعى لأن يركن الجميع على حائط الإعلام، باعتباره الحائط الأضعف، ليس من حق أحد أن يتعامل مع الإعلام كجارية يجلبها إلى فراشه في الوقت الذي يريد، وبعد أن يفرغ منها يبعدها عن حماه ورحمته.
لن نستطيع أن نمنع الصراع، خاصة أن المخفى عنا أكثر بكثير من المعلن، نعرف أن هناك من يعمل من أجل مصلحة الوطن، لا نزايد على أحد، لكن على الأقل يجب أن يعرف الجميع أنه ليس من مصلحة أحد، أن يدخل الإعلام في متاهة.
لقد قضى نظام مبارك على آخر ما تبقى من تليفزيون الدولة، عندما جعله يركز كاميراته في كوبرى قصر النيل الهادئ، بينما المصريون يقتلون بعضهم في ميدان التحرير على بعد خطوات، انهار التليفزيون الرسمى، ولن يقوم قريبا، فلا تفرطوا فيما تبقى من إعلامنا، ممارساتكم ضده ستجعل الناس يفقدون الثقة فيه، وأعتقد أنكم تحتاجون إلى الناس وإلي الإعلام أيضا، أم أن لديكم قولًا آخر؟
عندما عمل الإعلام بحرية استطاع في أقل من عام، أن يساهم في كشف جماعة الإخوان المسلمين، وتعريتها وإسقاط رئيسها، ولو كان الإعلام مقيدا، لما استطاع حشد الناس في الشوارع من خلال فضحه للجماعة.
فعليًا لم يعد الإعلام في طوع أحد، ففى زمن الفضاءات المفتوحة التي بلا رقيب، لا يمكن أن تضع لجاما على فم إعلامك، ثم تطالبه بأن يخوض إلى جوارك معارك مصيرية.