تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
لعله مما يستوقف المتأمل فى لغتنا العربية أن تعبير «الاتصال» مشتق من الفعل «وصل»، ويشير «مختار الصحاح» فى هذا الصدد إلى أن تعبير وصل إليه وصولا أى بلغه، وأن الوصل ضد الهجران، والمتأمل للغتنا اليومية قد لا تفوته دلالة كلمة «الوصال»، الاتصال إذن بمعناه اللغوي، ووفقا لاستخدامه فى لغتنا اليومية إنما يعنى نوعا من العلاقة الإنسانية الحميمة، المباشرة، والمتبادلة.
والمتأمل لتطور العلاقات الإنسانية فى المجتمعات الحديثة قد يلحظ أنها بحكم تعقد الحياة، وزيادة التخصصات وتعمقها، فضلا عن تطور التكنولوجيا الحديثة سواء فى المبانى أو التنظيمات أو وسائل الاتصال، كل ذلك يدفع أبناء تلك المجتمعات إلى مزيد من العزلة والتقوقع. صحيح أنهم لا يكفون عن ممارسة الاتصال الشخصى بمعناه الفنى العلمي، ولكنهم يبتعدون شيئا فشيئا عن ممارسة المضمون الشخصى الإنسانى لهذا الاتصال.
إن الوحدة الأساسية للمجتمع البشرى هى الأسرة: مجموعة من الأفراد تربطهم علاقة وثيقة هى علاقة الدم، فضلا على أنهم يعيشون معا، ومن الطبيعى -والأمر كذلك- أن تكون الأسرة بمثابة البؤرة التى تصل فيها ممارسة الاتصال الشخصى بمضمونه الإنسانى إلى ذروتها، ولكنا نشهد مع تطور المجتمع حضاريا أن الأسرة قد ضاق نطاقها وتقلص حجمها، وحلت الأسرة النووية، أى الأب والأم والأبناء، محل الأسرة الممتدة التى كانت تضم إلى جانبهم الأخوال والأعمام والأجداد.. إلى آخره، ومن ناحية أخرى فقد ازدادت سماكة الجدران التى تفصل بين كل أسرة وأخرى بفضل تطور تكنولوجيا البناء وتشييد العمارات الضخمة الحديثة التى تضم العشرات بل المئات من الشقق التى أحكم عزلها عن بعضها فنيا، وقد كان المتوقع منطقيا بعد ذلك كله أن تزداد حرارة التفاعلات الاتصالية الشخصية بين أفراد الأسرة بعد أن تقلص حجمها وأقيمت الجدران السميكة بينها وبين جيرانها، ولكن ما حدث هو العكس تماما، فثمة جدران أشد سمكا قد ارتفعت مع التقدم الحضارى بين أفراد الأسرة وبعضهم البعض، وهى جدران أشد إحكاما لأنها جدران نفسية.. كل مشغول بنفسه، يلهث وراء هدفه، لا يكاد يجد وقتا لمجرد الحديث الشخصى مع بقية أفراد الأسرة، هذا إذا ما وجد فى نفسه مجرد الرغبة لإقامة مثل هذا الحديث، لقد أصبح الحديث الشخصى الحميم فى عديد من الأسر وخاصة فى المجتمعات المتقدمة ترفا لا يستطيعونه، بل وتزيدا لا يرون ضرورة له.
ومن واقع مشاهداتى الشخصية فإننى أستشعر أن هذه المظاهر آخذة فى الانتشار فى بلادنا كمصاحب لطبيعة نمط التطور الحضارى الغربي، إن العديد من الأبناء والأزواج والزوجات يحسون فى لحظات استبصارهم بإلحاح تلك الحاجة الإنسانية للاتصال والتى أشرنا إليها فى صدر هذا المقال، ولا يجدون حولهم من يستطيع إشباع حاجتهم تلك، فليس ثمة من لديه الاستعداد أو الرغبة أو حتى الوقت ليضيعه فى «دردشة» يبدو ألا هدف لها، بل ولا حتى الاستماع إلى مثل هذه «الدردشة»، فإذا ما اضطر محرجا، تقبل الموقف متململا ناظرا فى ساعته، أو متثائبا راغبا فى إشباع حاجته للنوم باعتبارها أيضا ضمن الحاجات الإنسانية الأساسية، فإذا لم يصل إلى هدفه بالتململ أو التثاؤب فلا بأس من إبداء الاستخفاف والسخرية من مثل هذا «الكلام الفارغ» الذى لا يعدو أن يكون مضيعة للوقت الثمين الذى ينبغى أن يستغل فيما يفيد، ولا يكون أمام صاحبنا الذى يعانى من العطش الاتصالى والذى جرؤ على التعبير عنه فى لحظة استبصار شجاعة، إلا أحد أمرين: إما أن يعود إلى قوقعته من جديد، أو أن يعاود البحث -إذا ما غلبه إلحاح الحاجة- عن شخص يتحدث معه حتى ولو كان غريبا، إن نسبة لا يستهان بها من المترددين على عياداتنا النفسية ليسوا مرضى بالمعنى الفنى الدقيق، وليسوا كذلك مجرد أفراد مدللين يبحثون عن تسلية. إنهم فى أغلب الأحيان ليسوا سوى أولئك التعساء المتألمين الذين يعانون من مرض الحضارة الغربية الحديثة، الإحساس بالعزلة أو بعبارة أخرى «الجوع الاتصالي».
إن التقدم الحضارى الغربى قد أفرز ظاهرة العزلة، ولكنه أفرز معها علاجها ذا الطابع الغربى كذلك، إن العديد من أنماط العلاج النفسى الحديثة لا تعدو أن تكون تشجيعا للفرد على الخروج من قوقعته الانعزالية والاستمتاع بالتعبير اللفظى بل والجسدى أحيانا عن انفعالاته، ولكن داخل الجدران السميكة للعيادة النفسية، فلعله حين يعود من جديد إلى قوقعته يظل محتفظا بتلك الذكريات الجميلة التى عاشها خلال خبرة خروجه المؤقت منها، ويظل محتفظا إلى جانب ذلك بتوافقه مع نمط الحياة الانعزالى الذى يطالبه به المجتمع الحديث.
لعلنا نتساءل بعد ذلك كله: هل من مخرج؟ هل من سبيل للتقدم الحضارى دون التردى فى هوة الانعزالية؟ هل من سبيل للارتفاع بقيمة العمل دون التردى فى هوة الإدمان الشكلى للعمل؟ هل من سبيل للارتفاع بقيمة العقلانية دون التردى فى هوة الاتجاه العملى المتطرف؟ وأخيرا هل ثمة ما يمنع حقا من الجمع بين «الإشباع الاتصالى الطبيعي» و«التقدم الحضاري»؟
إنها مجرد تساؤلات نطرحها على أمل أن تثيرنا جميعا من مختلف التخصصات للبحث عن إجابة شافية لها.