تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
والآن نلتقى مع نصر حامد أبوزيد، ذلك الإنسان الذى كان يقطر وداعة وطيبة قلب ومعهما قدرة على الاحتمال وتصميم على التجديد، ومعنا كتاب لم يتداول كثيرا فى مصر، لأنه طبع فى الدار البيضاء وهو «الخطاب والتأويل» وأستأذن القارئ فى أننى سأبدأ بآخر صفحات الكتاب لأنها تضم حوارًا ممتعًا مع د. نصر حول نشأته، ويبدأ نصر مقدما نفسه، ولدت بقرية قحافة بجوار طنطا لأبوين فقيرين ولا أجد أفضل من تلك الأسطر الشعرية التى وردت على لسان «الحسن بن منصور الحلاج» الذى قتل صلبا عام ٩٢٥ ميلادية والتى وردت فى مسرحية الشاعر صلاح عبدالصبور «مأساة الحلاج»..
أنا رجل من غمار الموالى فقير الأرومة والمنبت
فـَـلا حَسَبى ينتمِى للسَّمَاءِ ولا رفعتـْـنى لهَا ثروتِى
وُلِدتُّ كآلافِ مَنْ يُولدُونَ بآلافِ أيامِ هذا الوجودِ
لأن فقيرًا بذاتِ مساءٍ سَعَى نحو حـضنِ فقيرةْ
وأطفأَ فيهِ مَرارةَ أيامِهِ القاسيةْ!
الأب فلاح فقير أضناه الكدح فى الأرض فقيرة المحصول، باع الأرض وكانت مساحة صغيرة جدا وفتح محل بقالة صغيراً. تعلمت فى الكتاب، أتممت حفظ القرآن فى الثامنة، حصلت على الإعدادية عام ١٩٥٧ وبعدها بأشهر توفى والدى وأرغمت على اختصار طريقى فى التعليم. وحصلت على دبلوم المدارس الصناعية قسم لاسلكى ١٩٦٠ وعملت بهيئة المواصلات اللاسلكية. ولكنى صممت على مواصلة تعليمى (منازل) وبعد الثانوية التحقت بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة وتخرجت بتقدير ممتاز وعينت معيدا وبدأت رحلتى الأكاديمية» (ص٢١٧).. ومثل الكثيرين انضم وهو فتى صغير إلى الإخوان وتركهم. ثم يقرر «لكنى لم أكن فى يوم من الأيام عضوا نشطا فى أى حزب، وإن كنت وجدتنى دائما أقرب من الوجهة السياسية والفكرية إلى حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى معجبا بصيغته الليبرالية ونزوعه الاشتراكى والقومى ومقاومته للتبعية بكل أشكالها، لكن لم أكن عضوا عاملا به، وإن شاركت فى كثير من ندواته وأنشطته الثقافية ولا أزال أحرص على هذه المشاركة» (ص٢٢٠).
ثم نعود إلى الصفحات الأولى من الكتاب فنقرأ «إذا تصارعت الأفكار صحيا لا بد للجديد أن يزحزح القديم ويغيره ويتجاوزه، أما تجار القديم الذى أحاطته القداسة بالترديد والتكرار، بينما الجديد لا يزعم لنفسه أى قداسة فإن الأمر يفضى دائما إلى تمكين القديم وإزاحة الجديد، بل وقتله قتلا نهائيا، ناهيك باغتيال المفكر المجدد، والذى يسهل عملية الاغتيال هذه أن أنصار القديم ينقلون الصراع دائما من أرضه الحقيقية أرض الفكر والصراع الفكرى إلى أرض العقيدة وميدان الدين، وساعتها يصبح من السهل على أنصار القديم ممارسة ديماجوجية وعظية إنشائية تؤلب العوام وتجعلهم طرفا فى الخصومة، وكذلك تأليب مؤسسات اجتماعية وتعليمية وتربوية وبقية المؤسسات الدينية متهمين التجديديين بالإلحاد والشيوعية والعلمانية.
وهكذا يصبح الجديد دوما فى حالة دفاع عن النفس ويكون مطلوبا منه دائما أن يؤكد أن أفكاره لا تمس الدين ولا تطال العقائد الدينية وهكذا يدخل الجديد فى موقف دفاعى سجالى فينخرط المفكر المجدد فى خطاب ركيك سقيم ينطوى على تراجع واستسلام (ص٢٠). ونمضى مع د. نصر فى حديثه عن زكى نجيب محمود الذى قال عنه إنه رمز التنوير، ونقرأ «كان الخطاب التنويرى عند زكى نجيب محمود فى مستهل حياته مجرد صدى للفكر الأوروبى الذى أمكن تلخيصه فى بُعدين: الإيمان بقيمة الحرية وفهم الحياة الاجتماعية والطبيعية على أساس أن التطور جوهرها» ثم يعلق نصر قائلا: كانت الحرية مطلبا أساسيا فى الحياة المصرية، أما فكرة التطور فلم يعرف منها معظم المثقفين إلا الصورة البيولوجية التى تنسب إلى داروين» ثم «واستمر الخطاب التنويرى يكتسب أرضا جديدة ويعمق جذوره فى التربة الثقافية المصرية على يد أحمد لطفى السيد الذى نادى بوجوب الحرية المسئولة وطه حسين بما عمل على إشاعته فى النفوس من إزاحة التقديس عن حقائق التاريخ» ثم يقول «إن خطاب التنوير المصرى وجد نفسه فى تضاد مع بعض أطروحات الفكر الغربى عن الإسلام والمسلمين ليس هذا فحسب، فقد تناقض وتمت محاصرته بالدرجة الأولى بنقيضه السلفى الذى يرى أن الفكر الغربى «يسعى للقضاء علينا وانتهاك أصالتنا».. وهنا يرفع نصر حامد أبوزيد راية التثوير فوق وقبل راية التنوير.
وإلى لقاء.