ينجح شعبنا الطيب المسالم في صنع آلهته.. كما ينجح أيضًا في هزيمتهم.
هل أتحدث عن تاريخه؟ عن زعماء كبار نفخ فيهم من روحه.. عن أصحاب إنجازات تحولوا على يديه إلى أصحاب كرامات ومعجزات.. عن نجوم أسعدوه فجعل منهم أبطالا لا يقهرون.. عن قادة كل ما فعلوه أنهم قدموا ما عليهم تجاهه، فرفعهم إلى مكانة الأساطير.
لقد فعلنا كل هذا.. نحن شعب يحب الآلهة، نعترف لهم ربما بما لا يرونه هم في أنفسهم، لكننا وبنفس البراعة والدأب واللياقة النفسية نهدمهم، ونتسلى برواية حكاياتهم، فبعد أن نفرغ من صناعة آلهة العجوة نأكلها، فلا صبر لدينا على العبادة الدائمة، ولا طاقة عندنا لنواصل الليل بالنهار في طاعة لا تنقطع.
بكينا جمال عبد الناصر، خرجنا بالملايين وراء جثته ننتحب، هتفنا: «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين،» وبعد أن أودعناه في التراب، عدنا لننكت عليه، ونهيل عليه التراب، وخرج علينا كاهنه الأكبر «هيكل» ليدق أول مسمار في نعش قصته الكبرى، فكتب «عبد الناصر ليس أسطورة»، كان قد بدأ في تصنيع أسطورة جديدة.
استقبل المصريون السادات بسخرية فاحشة، رأوه ضعيفا وتابعا، «فقد مضى رئيس موتنا من الرعب وجاءنا رئيس موتنا من الضحك»، لكن وبعد النصر الكبير في أكتوبر بدأت آلة تصنيع الإله في العمل دون توقف، طلبنا منه الحرب فحارب وجعلناه بطلا للحرب، ولما عقد معاهدة سلام نصبناه بطلا للحرب والسلام معا.
وقف الشيخ الشعراوى في مجلس الأمة ليقول متحمسا: «لو كان الأمر بيدى لرفعت الذي انتشلنا مما كنا فيه إلى درجة ألا يسأل عما يفعل»، فاعترضوا على جعله من السادات إلها واتهموه بالكفر.
لكننا لم نتحمله عندما رفع الأسعار قرشا أو قرشين، تحولنا إلى شعب لا يعرفه، هتفنا ضده، وأشعلنا النار من حوله، فاكتأب وانزوى حتى ذبل عوده، لم نكتف بالسخرية منه، ونعته بأبشع ما نملك من قاموس الشتائم والبذاءات، بل قتلناه أمام العالم كله، لم نأكله فقط بل ذبحناه.
دخل مبارك علينا وهو مجرد موظف، كانت أقصى أحلامه أن يصبح رئيسًا لحى مصر الجديدة، فوجد نفسه رئيسًا لمصر كلها، لم يصنع المصريون من مبارك إلها لأنه صاحب معجزة، لكن الزمن وحده كان كفيلا بأن يمنحه قداسة، تحول معها إلى رجل لا يقهر، كثيرون منا كانوا لا يتخيلون أنه يمكن أن يموت.. فهل تموت الآلهة؟!
لم يكن مبارك إلها من صنع شعبه، بل تم تصنيعه بمعرفة أجهزته الأمنية المتوحشة، ولذلك كان سهلا على الشعب الطيب المسالم بعد أن كسر عصا الداخلية الغليظة، أن يرفع حذاءه في وجه الإله المهزوم، رافضا كل توسلاته ورجاءاته بأن يبقي، فقد اختبروه لأول مرة بعد ثلاثين عاما من حكمه، فلم يجدوا عنده إلا طبلا أجوف، فلم يبقوا عليه.
لم يكن دخول محمد مرسي إلى خشبة المسرح هادئا، تحرج أتباعه من تقديمه لنا على أنه إله قادر على كل شيء، قناعتهم الدينية حالت دون أن يلعبوا لعبة المصريين المفضلة في صنع الآلهة، فقنعوا بأن جعلوا منه مندوبا للإله، مؤيدا بكلمته ومدعوما بقوته، دون أن يعرفوا أن الشعب الذي لا يتردد عن ذبح الآلهة، لن يكون صعبا عليه أن يمثل بجثة مندوبها، وهو ما جرى.
مر المستشار عدلى منصور علينا دون أن يلتفت له أحد، كنا نعرف أنه جاء لمهمة محددة، سرعان ما يخلص منها، ونبدأ في تجهيز المسرح للوافد الجديد.
من اللحظة الأولى التي أطل علينا فيها عبد الفتاح السيسي، ونحن نحيطه بتكويننا النفسى الذي لا يقبل إلا آلهة تحكم وتتحكم، صنع هو ما عجزنا عن توصيفه أو فهمه، ظل في المنطقة الأسطورية لا يغادرها أبدا، ولذلك من الخطأ الكبير أن يهبط السيسى بنفسه من مكان الآلهة التي تقدر على كل شيء إلى شارع العامة يطلب من الناس أن يقفوا إلى جواره ويعملوا معه.
أعرف أنه لن ينجح وحده، لكن هذا هو قدر من يحكم المصريين، لا بد أن يدير كونه الأرضى بطريقة الآلهة الذين يصيغون أقدار البشر دون النظر إلى من يحتج أو يعترض أو يغضب، سيقول له الناس نريد أن نشارك، نريد أن نعرف، لا يجب أن يصدقهم، فهم أدمنوا الجلوس لمشاهدة تصاريف القدر.
من يحكم مصر يضع قدميه في الجحيم، ومطلوب منه ألا يتألم، ففى اللحظة التي سيتألم فيها سيجد نفسه خارج الجنة والجحيم معا، ولن يستطيع أن يعود مرة أخرى.
من زاوية نفسية مجردة أجد نفسى مشفقا على الرئيس السيسي، ومن زاوية فلسفية مجردة أراه حائرا بين اختيارين، فإما أن يكون إلها يحكم، وساعتها سيكون مطلوبا منه أن يظل مبهرا لمن يدخلون محرابه، أو يكون رئيسًا أرضيا في متناول شعب لا يرحم من يراه مثله، فيخرجون عليه. لا أبشر بشيء.. ولا أحذر من شيء.. فقط أحاول الإمساك بلحظة بدأ فيها المصريون السخرية من رئيس رفعناه إلى مرتبة الآلهة، والسخرية، هي بداية الطريق لالتهام إله العجوة الذي صنعناه بأيدينا.. ما الذي يجب أن يفعله السيسى في مواجهة كل ذلك؟.. هذا سؤال يجب أن يجيب عنه وحده.