الثلاثاء 22 أكتوبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

جندي الأمن المركزي.. بين الإنصاف والإجحاف

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

- في أول يوم أعمل فيه كطبيب، عام 1979م، جاءني في الاستقبال جندي أمن مركزي ومعه بعض زملائه.. فاقدًا للنطق رغم صحته الظاهرة.. وعلمت منهم أن الشاويش ظل يضربه بالعصا في المعسكر حتى فقد النطق تمامًا.
- ذهبت به إلى صديقي د/ علي عبد العزيز، وكان معيدًا بالطب النفسي بالكلية.. شرح لي حالته، وأعطاه جرعة من الكهرباء العلاجية أعادت النطق إليه.. قابلت هؤلاء الجنود كثيرًا في السجن، كانوا يعيشون معنا في العنابر ليلًا.. كنا نتقاسم معهم الطعام.. إذا كنا في شدة أو إضراب ساعدونا.. وإذا كنا في سعة أعطيناهم من طعامنا ودوائنا.. حيث إنهم كانوا يمكثون في الخدمة في عنابر السجن من الخامسة مساءً حتى الثامنة صباح اليوم التالي.. وليس لهم طعام مقرر في هذه الفترة.. كان بعضهم يحكي لنا مشاكله.. وكان بعضنا، خاصة في أيام الشدائد، يستعين بهم ويبثهم همه.
- بعضهم كان يتعمد إيذاءنا في وقت الشدة.. وبعضهم قدم لنا خدمات جليلة في الأوقات الصعبة.. كان بعضهم يقبع في كشك الحراسة أعلى العنابر، وكان منهم الفلاح الفصيح، كما كان يسميه الشيخ/ عصام دربالة.. كان يرسل لنا الخطابات، ويحضر لنا الممنوعات: مثل الراديو، أو الأقلام، أو الكشاكيل، في وقت الشدة.
- كان الجنود والشاويشية إذا عاشوا بيننا تغلب عليهم الرقة والرحمة؛ فنتعارف ونتصادق.. ويعرف كل منا ظروف الآخر.. ويبثه متاعبه وهمومه.. وقد أشار هاشم الرفاعي إلى مثل ذلك في قصيدته الرائعة “,”رسالة قبل الإعدام“,”.. يصف شاويش السجن المكلف بحراسة من يعدم من الإسلاميين فقال:
من كُوةٍ بالباب يَرقُبُ صيدَهُ ويعودُ في أمنٍ إلى الدورانِ
أنا لا أُحِسُّ بأيِّ حقدٍ نحوَهُ ماذا جنى فتَمَسّهُ أضغاني
هو طيبُ الأخلاقِ مثلك يا أبي لم يَبْدُ في ظمأٍ إلى العدوانِ
لكنّه إنْ نامَ عني لحظةً ذاق العيالُ مرارةَ الحرمانِ
فلربما وهْو المُرَوَّعُ سِحْنةً لو كان مثلي شاعرًا لرثاني
أو عاد -من يدري؟- إلى أولادِهِ يومًا تذكّرَ صورتي لبكاني
- أما إذا جاء الجنود من خارج السجن للتفتيش فحدث ولا حرج عن ضرب المعتقلين السياسيين والجنائيين، وإهاناتهم، وإطلاق أسماء النساء عليهم، وضربهم بالدونك والعصي.. لا لشيء إلا لأن هؤلاء من أبناء الجماعة الإسلامية التي تواجه النظام مثلًا.. رغم أن هؤلاء المعتقلين لم يفعلوا أي شيء.. فقد مضى عليهم في السجون سنوات طوال انقطعت فيها صلتهم بالخارج.. وليس لديهم أي شيء يستحق التفتيش أساسًا.. وحينما تراهم يفعلون ذلك تتصور أنهم يفتقدون إلى أدنى درجات الإنسانية والرحمة أو العقل.. حتى أنهم كانوا يفرطون في ضرب الإخوة المعتقلين إفراطًا يجعل بعض ضباط السجن يحاولون منعهم، دون جدوى.. حتى يأمرهم شاويشهم أو ضباطهم.
- وكان بعض الإخوة يقول للآخر: ما الذي يجعل هذا الجندي المسكين، الذي لا يعطيه النظام أي ميزة، ولا يستفيد من النظام شيئًا، بهذا الجبروت والشدة على سجناء ومعتقلين لا حول لهم ولا قوة؟
- وقد كانت استقبالات السجون واحدة من نماذج شدة وقسوة هؤلاء الجنود.. فضلًا عن الاقتحامات المتكررة لمنازل الإخوة.
- وقد حكت لي أسر كثيرة أن الأطفال، وبعض الفتيات، كانوا يتبولون على أنفسهم فور اقتحام الجنود للبيوت.. فضلًا عن صراخ النساء وعويلهن.
- لقد تفكرت في حال هؤلاء الجنود، الذين كان يأمرهم اللواء زكي بدر، وزير الداخلية الأسبق، باقتحام مساجد الجماعة الإسلامية بالأحذية، فقلت لنفسي: “,”هؤلاء الجنود ستتمزق نفسيتهم بين طاعتهم لربهم وتقديسهم للمسجد كمسلمين وبين طاعتهم لقادتهم“,”.
- وقلت لنفسي: “,”لماذا يدخلهم أمثال زكي بدر في هذا الصراع النفسي المدمر.. والذي قد يؤدي إلى تكفير مثل هؤلاء الجنود من بعض الإسلاميين دون وجه حق؛ فيظلم هؤلاء الجنود أنفسهم، ويُظلمون من غيرهم“,”.. ويستمر الصراع بين الداخلية والإسلاميين دون مبرر.. خاصة أن الاقتحام كان يتم بغطاء كثيف من الغازات.
- لقد كان جنود كتيبة الأمن المركزي بمنطقة طرة يعشقون قائدهم “,”عمر بيه“,”، ويهتفون له وهم يقتحمون عنابر السجن على السجناء والمعتقلين الغلابة، الذين لا حول لهم ولا قوة.. وأخيرًا فُصل العميد/ عمر بيه من عمله؛ لأنه كان يسرق مرتبات الجنود “,”الرديف“,” التي تصرف لهم في نهاية خدمتهم، وتم ضبطه في وضع مخل مع سكرتيرته.. وكان بعضنا يقول لبعض: “,”هذا الرجل ظلم جنوده مرتين: حينما أمرهم بضرب المعتقلين ظلمًا.. وحينما سرق منهم مكافآت نهاية الخدمة التافهة.. رغم أنهم منحوه حبهم بلا حدود“,”.. وتأملوا فيلم “,”البريء“,” الذي جسده المبدع أحمد زكي؛ لتروا أنه لخص مأساة هذا الجندي بطريقة رائعة.
- لقد تأملت طويلًا في شأن جندي الأمن المركزي، أو جندي قوات الأمن، الذي يعد صمام الأمن وعموده الرئيسي، والساهر الحقيقي على أمن الوطن.. فوجدت أن الجميع أدخله في صراع سياسي لا ناقة له فيه ولا جمل.. وقد يدفع فيه حياته.. أو يتعرض لهجوم الآخرين عليه.. وهو لا يستفيد شيئًا منه.. وليست له مطامع في الدنيا سوى إنهاء خدمته الإلزامية.. وبدلًا من أن يدافع دومًا عن الوطن جعلته الأنظمة والقوى السياسية المختلفة يعيش في صراع نفسي، ومعارك بالشوم أو الرصاص أو الغاز، لا يفهم أولها من آخرها.. ولا يُعد طرفًا فيها.. ولا يدرك مرامي أطرافها ولا مصالحهم الباطنة؛ فهي أعمق من إدراكه.
- إنه “,”البريء المذنب“,”.. إنه ينتقل من بساطة القرية ووداعتها ليزج به السياسيون في أعقد المشاكل وأصعب القضايا وأشد الصراعات التي يحار فيها الحكماء.. فلا يدري الجندي أين الحق وأين الباطل.. فما كان باطلًا في السياسة منذ سنوات أصبح حقًّا.. وما كان حرامًا أصبح حلالًا.. وما كان حلالًا أضحى حرامًا.. إنها السياسة التي تلعب بالعقول من أجل كراسي السلطة.
- إنها جريمة القوى السياسية المختلفة التي تتصارع أو تستخدم العنف.. إنها أزمة معظم أنظمة العالم الثالث، التي تجعل هذا الجندي يصد عنها نوبات الغضب من تردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. دون أن تحل مشكلاتها بعيدًا عنه.. إنها تجعله دومًا الذي يحمي تقصيرها أو فشلها السياسي أو الإداري أو الاقتصادي.
- هذا الجندي البسيط لا يدري لماذا يشتمه ويضربه ويؤذيه ويلقي عليه الحجارة والمولوتوف بعضُ المتظاهرين.. ويذهبون إليه رغم أنه اليوم لا يذهب إليهم ولا يريد الاحتكاك بهم.. أما يكفيه أنه حشر مع المئات من قريته في الريف أو الصعيد في قطارات بائسة حتى يساق إلى معسكره.. تاركًا أسرته في وضع اقتصادي مأساوي، ويأخذ 150 جنيهًا في الشهر لا تسمن ولا تغني من جوع؟
- إنه ممزق ما بين بره بأمه في القرية وما بين قسوته على من يقع تحت يديه.. وما بين وداعته مع أصدقائه وضربه أو قتله للمعتقلين في السجن.. وما بين طيبة قلبه مع أقربائه وأحبابه وشراسته في ضرب المتظاهرين.. فهل يستمر هذا التناقض في حياته؟!!
- إنه لا يدري بأي الشخصيتين يعيش.. وكيف يجمع بينهما.. وكيف يخدم الوطن، ويحمي الشرعية والمنشآت العامة، دون أن يظلِم أو يُظلَم أو يعتدي على أحد أو يُعتدى عليه.. إنه إنسان طيب مثلنا، وضعناه جميعًا في أسوأ ظرف يمكن أن يوضع فيه إنسان.. ثم طلبنا منه الحكمة والرشد والعقل والعفو والتسامح وقبول الدنية.. فأنى له ذلك؟