يحيى آلاف المصريين اليوم، الليلة الختامية لمولد السيدة زينب، وذلك بحى السيدة زينب وحول مسجدها الكائن بنفس المنطقة، حيث ينتظر توافد المنتمين للطرق الصوفية ومحبى آل البيت على الميدان، فيما يحيى الليلة مجموعة من المنشدين على رأسهم محمود التهامى، نقيب المنشدين، ونجل الشيخ ياسين، كبير المنشدين.
وخلال الأيام الماضية توافد أبناء الطرق الصوفية للاحتفال بمولد السيدة زينب، الذي استمر أسبوعًا من الذكر والزيارات المتواصلة وإطعام الطعام، ونصبت بعض الطرق سرادقات لها في محيط المسجد على رأسها الطريقة الرفاعية والبرهامية، الأحمدية المرازقة والخلواتية، فيما نُصبت بعض السرادقات الأخرى التي لا تحمل اسمًا لأى طريقة، كما انتشرت بعض السرادقات في الشوارع الجانبية.
وانتشرت الأضواء على جدار المسجد الذي استقبل الآلاف الوافدين يوميًا، وسادت حالة من الاستنفار بين العاملين به لتنظيم الزيارات، وعملية توافد الزائرين، وأقامت عددًا من الطرق حضراتها داخل المسجد، على رأسها الطريقة البرهانية التي أقامتها يوم الثلاثاء، والطريقة الرفاعية التي أقامت حضراتها يوم الخميس، فيما سادت حالة من الاستقرار الأمنى خلال فترة الاحتفالات، وانتشرت العناصر الأمنية لرصد أي مخالفات أو أعمال شغب أو مخالفات.
حبيبة سناكيح «مصر القديمة» و«سند» المكسورين و«براح» من ضلَّ السبيل
السيدة زينب تحتفظ بعلاقة خاصة جدًا مع آل القاهرة.
والناس في مصر تقدس آل البيت لدرجة ترتفع بهم إلى مراتب الأنبياء والرسل.
عندما تضيق الدنيا بفقراء ومرضى هذا البلد «غير الأمين» لا يجدون إلا حضن «أم العواجز»، تنساب في حجرها الرحمة، ويشع ضريحها نورًا، ودفئًا لا يشعر به إلا أولاد السبيل، ومن داست عليهم «الكعوب العالية»، فتدحرجوا إلى مقامها «الكريم» يمدون أبصارهم إلى الله، ويطلبون منه نظرة حنان، حين تتكاثر عليهم الهموم، وتهزمهم، وتساويهم بالتراب.
وهل من واسطة إلى الله أفضل وأرق من حفيدة «النبي»، التي يقصدها «المظاليم» من الصعيد وسيناء وآخر بلاد الدنيا، يتبرَّكون بها، ويخشعون في حضرتها، ولا يقدّمون لها شيئا، يقدمون «العشم» في قدرتها على أن تقدم لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، دون أن يعدوها بمقابل.
علاقة المصريين بالله -نفسه- تبدأ بالعشم، وتنتهى إليه، يزورون «أم العواجز»، تتساقط دموعهم على عتباتها، ويقولون في نهنهة وتقوى تليق بالموقف العظيم:
«مدد يا ست يا طاهرة.. بركاتك يا أم هاشم».
كل ساع إلى محبة السيدة الكريمة وكرمها يتعامل معها بما يناسبه، فهى أهل لكل شيء، لا تستخسر نفسها في أحد، أم للضعفاء، وأخت للتائهين، وحبيبة لمن فقد حبيبته، فتجد من يقف على عتباتها، ويبكي:
«يا رب عشان خاطر حبيبتك.. السيدة زينب».
افترض أن لها عند الله خاطرا ضخما يسمح بأن يستجيب لدعوته، لأنها خير وسيط يحمل إلى رب العباد دموع «الغلابة»، ودعواتهم، وورقة «مطوية» بحاجاتهم التي لن تأتى أبدًا، إلا إذا تدخل، أو تدخلت هي، لأنها اليد التي لا تخاف من لسعة النار.
عندما تمنح السيدة زينب عطاياها، وبركاتها التي ليس لها أول من آخر، وتصرف للمقهورين من عندها بلا حساب، يتعامل معها المصريون بـ«دلع».. تجد واحدًا من «سناكيح» مصر القديمة يلف سجائره، ويشدّ «الأنفاس» بوسع صدره حتى يضيع في عالم آخر.
ثم يتوضأ ليصلى الفجر في حضرتها، ويطلب الرحمة والرزق والصحة وراحة البال والشفاء من دخان الحشيش الذي حاول أن يبرأ منه وفشل، ثم زيادة في الدلال والمحبة التي فطر عليها المصريون، ينام على السجادة الخضراء المفروشة أمام مقامها إلى أن يفيق من الغيبوبة، ويطمئن أن الله لا يمكن أن يعذبه لأنه من «حبايب السيدة»، تبدأ مرحلة جديدة، بعد العشم.
يبدأ «العَتَب».
يعاتب المصريون «أم العواجز» لأنها تخلَّت عنهم، تركتهم للفقر والمرض والضياع والحروب المقدّسة مع المجهول، دون أن تتدخل، رغم أنها جارة لا بد أن تحنّ إليهم، وتنقذهم، حالة من حالات «الدلع» المبالغ فيها، فنحن نريد أن يكون عندنا من ينهى كل شيء، لنأخذ أماكننا في الجنة على الجاهز.
أكثر من ذلك أنهم لا يعتبرون السيدة زينب واحدة من أولياء الله الصالحين، أو آل البيت فقط، كل واحد يعتبرها ملكًا خاصًا له، تنفذ له وحده ما يريد، جزء من طبيعة المصريين الذين لا يحتفل غيرهم بيوم ميلادها، رغم أنها لكل المسلمين، حفيدة رسول جاء إليهم جميعًا، لكن أهل القاهرة احتكروها، واحتكروا عيد ميلادها وجعلوا منه عيدًا دينيا شعبيًا لا يشاركهم فيه أحد، رغم إن الاحتفال به في البلد الذي ولدت فيه حرام.
لكن لنا في خلق الله شئون وأغراض وأوهام وطلبات وعشم لا ينتهي.. نحجّ إليهم أحيانًا.
كتب التراث والمساجد القديمة لا تحمل صورة واحدة للسيدة الطاهرة ولا وصفا دقيقا لملامحها، إلا أن هناك في المسجد الذي يحمل اسمها، صورة لها في عيون من لا يرونها، إنما عرفوا سيرتها العطرة: بيضاء.. ترتدى حجابا يشبه حجاب مريم العذراء.. وجمالها الربَّانى يجعلها ملاكًا متواضعا، وأطلّ علينا من شرفته السماوية.
ولكن.. هل يعرف المصريون السيدة زينب فعلا؟
بالطبع لا، يسمعون عن بركاتها، وخيراتها، ومن مسح عتبة ضريحها فشفاه الله من الصرع، ثم يقرأون حكاية سيدة دخلت المقام «مشلولة»، وخرجت منه تجرى، وحكايات أخرى ربما تكون حقيقية، ولا يمكن أن تكون شائعات.
«زينب» الحلم الذي ننتظر منه أن يحقق طلباتنا، ونترجى مساعدتها في الأزمات، ونتغنى بقوتها، ومعجزاتها، وقدرتها على احتواء الضعفاء.. فهى «سَنَد» من خسر الجميع، وخسر نفسه، و«براح» لمن ضاقت به الدنيا وضلّ سعيه.
هذا القالب البشرى الراقى الذي وضعت فيه السيدة زينب لم يمنعنا من البحث والتفتيش وراء سرها. السيدة زينب تحملت ما لا يقدر عليه بشر، ويروى محمد الباز في كتاب «الإسلام المصري» مذكرات «أم العواجز» كما جرت وقائعها بالضبط، يقول:
«شهدت مقتل أخيها الحسن بعد أن غدرت به زوجته، ووقفت على اغتيال أخيها الحسين وهو يجز رأسه، واقتحمت مشاهد قتل صغار بيتها، لكنها دفنت أحزانها في قلبها، ومضت لتحافظ على ما تبقى من أهل بيت الرسول- صلى الله عليه وسلم».
بدأت مأساة السيدة زينب مبكرًا، ولم تكن كربلاء إلا الحلقة الأولى من الحزن الكبير بعد أن أحاط جيش يزيد بالحسين، خرجت من خيمتها وقالت في أسى لعمر بن سعد، قائد الجيش: «يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر؟»، لم يجبها عمر بشيء، فقد كان الموقف أكبر منه وأعظم، وما هو إلا فتى مأمور من سيد ظالم، وكأنه لم يكن كافيًا على زينب أن تشهد مقتل الحسين فشهدته، وهو يمثل به شر تمثيل.
مات الرجل إذن، وبقيت زينب وبدلا من أن تترك لأحزانها جروها إلى أحزان أعظم، فبعد المعركة ساق الطغاة ذرية الرسول في موكب ضم السيدة زينب وأختها، أم كلثوم، وابنتى الحسين، فاطمة، وسكينة، وبقى في الركب زين العابدين على بن الحسين، ليحفظ ذرية الرسول من الفناء.
خرج الركب الطاهر على أقتاب الجمال بغير غطاء، وعندما بدءوا السير مرَّت السيدة زينب على ما قطع قلبها، رأت مصارع الشهداء، جثث أهل البيت متناثرة، وأشلاؤهم يختلط دمها بالتراب، فقد بقيت الجثث ٣ أيام ملقاة على صخور كربلاء.
لم تجد السيدة زينب ما تقوله، فصرخت والألم يمزق قلبها: «يا محمداه.. هذا حسين بالعراء، مقطع الأعضاء وبناتك سبايا، إلى الله المشكتى، وإلى محمد المصطفى، وإلى على المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزة سيد الشهداء».
دخل موكب السبايا إلى الكوفة، وما أن وقعت أنظار أهلها على آل البيت الشريف حتى أقبلوا يعطون الأطفال وهم على محاملهم بعض التمر والخبز والطعام، فصاحت فيهم السيدة أم كلثوم: «يا أهل الكوفة إن الصدقة حرام علينا، ثم أخذت من أيدى الأطفال وأفواههم ما أخذوه من أهل الكوفة، وألقت به في الأرض».
بكت نساء الكوفة بحرقة على ما صار إليه أهل البيت النبوى، لكنها قالت: «يا أهل الكوفة.. يقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم فالحاكم بيننا وبينكم الله».
وقف أهل البيت أمام بن زياد، حاول أن ينال منهم، وقال للسيدة زينب: «الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم»، لكن السيدة زينب ردَّت بثقة: «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه، وطهرنا من الرجس تطهيرا، فضح الفاجر وكذب الفاسق وهو غيرنا».
حين قابلت «يزيد بن معاوية» وجهًا لوجه، استفزته.. قالت له: «خرجت من الملة، واخترت دينا غير ديننا»، زاد غضبه، فردَّت عليه وهو يعبث برأس «الحسين» الشهيد: «يا يزيد.. أنت أمير تشتم ظلمًا، وتقهر بسلطانك، فكف عن الكلام».
انتهت الحكاية، وليعود كتاب «الإسلام المصري» إلى رفوف المكتبة مرة أخرى.
«الحسين» من أبطال قصة عودة السيدة زينب إلى مصر، هناك من يقول إن رأسه دفنت هنا، فقد اصطحبت «حفيدة الرسول» أجزاء من جسده إلى القاهرة، حين قرَّرت أن تستقر على أرضها، دون غيرها من بلاد الله الواسعة.
وهناك من يقول: إن جثمان «الحسين» بالكامل انتقل معها ليدفن في ضريحه القريب من شارع «المعز»، كرامة لآل بيت النبيّ.
والقصة الثالثة تقول: إنه لم يزر القاهرة حيًا ولا ميتًا، ولم ينزل شارع «المعز» أبدًا.
أين الحقيقة إذن؟
ما يستقر في ضمير المصريين أن كل آل البيت مرَّوا من هنا، وانتهى بهم المقام في القاهرة، فهذه الأرض ليست مسكونة بالعفاريت فقط، وإنما ببصمات من نسل الرسول أيضًا.
اختارت السيدة زينب القاهرة لتموت فيها، فقد عاشت ما لم تعشه امرأة، وقضت ما عليها، حتى نالت نورًا لا ينطفئ، يطل من جسدها الهادئ، فمن يوقد شمعة فوق المقام لا يريد أن تنير قبر السيدة الطاهرة، وإنما ينتظر منها أن تنير له حياته.
من بين القصص الكثيرة جدا التي تروى عن السيدة زينب، أنها سمعت من عابر سبيل لا يعرفها عن محبة أهل مصر «غير المبرَّرة» لآل بيت رسول الله، فطلبت أن تزور القاهرة، ومن يومها أصبحت «السيدة الأولى»، ولم تسلم من طمعهم في البركة، ولا محبتهم لرائحة «دم الحسين»، ولا يسألون ما أتى بها إلى هنا.. يكفى أن بعضًا من عطر الرسول يسكن أرضهم.
النسخة الورقية
وخلال الأيام الماضية توافد أبناء الطرق الصوفية للاحتفال بمولد السيدة زينب، الذي استمر أسبوعًا من الذكر والزيارات المتواصلة وإطعام الطعام، ونصبت بعض الطرق سرادقات لها في محيط المسجد على رأسها الطريقة الرفاعية والبرهامية، الأحمدية المرازقة والخلواتية، فيما نُصبت بعض السرادقات الأخرى التي لا تحمل اسمًا لأى طريقة، كما انتشرت بعض السرادقات في الشوارع الجانبية.
وانتشرت الأضواء على جدار المسجد الذي استقبل الآلاف الوافدين يوميًا، وسادت حالة من الاستنفار بين العاملين به لتنظيم الزيارات، وعملية توافد الزائرين، وأقامت عددًا من الطرق حضراتها داخل المسجد، على رأسها الطريقة البرهانية التي أقامتها يوم الثلاثاء، والطريقة الرفاعية التي أقامت حضراتها يوم الخميس، فيما سادت حالة من الاستقرار الأمنى خلال فترة الاحتفالات، وانتشرت العناصر الأمنية لرصد أي مخالفات أو أعمال شغب أو مخالفات.
حبيبة سناكيح «مصر القديمة» و«سند» المكسورين و«براح» من ضلَّ السبيل
السيدة زينب تحتفظ بعلاقة خاصة جدًا مع آل القاهرة.
والناس في مصر تقدس آل البيت لدرجة ترتفع بهم إلى مراتب الأنبياء والرسل.
عندما تضيق الدنيا بفقراء ومرضى هذا البلد «غير الأمين» لا يجدون إلا حضن «أم العواجز»، تنساب في حجرها الرحمة، ويشع ضريحها نورًا، ودفئًا لا يشعر به إلا أولاد السبيل، ومن داست عليهم «الكعوب العالية»، فتدحرجوا إلى مقامها «الكريم» يمدون أبصارهم إلى الله، ويطلبون منه نظرة حنان، حين تتكاثر عليهم الهموم، وتهزمهم، وتساويهم بالتراب.
وهل من واسطة إلى الله أفضل وأرق من حفيدة «النبي»، التي يقصدها «المظاليم» من الصعيد وسيناء وآخر بلاد الدنيا، يتبرَّكون بها، ويخشعون في حضرتها، ولا يقدّمون لها شيئا، يقدمون «العشم» في قدرتها على أن تقدم لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، دون أن يعدوها بمقابل.
علاقة المصريين بالله -نفسه- تبدأ بالعشم، وتنتهى إليه، يزورون «أم العواجز»، تتساقط دموعهم على عتباتها، ويقولون في نهنهة وتقوى تليق بالموقف العظيم:
«مدد يا ست يا طاهرة.. بركاتك يا أم هاشم».
كل ساع إلى محبة السيدة الكريمة وكرمها يتعامل معها بما يناسبه، فهى أهل لكل شيء، لا تستخسر نفسها في أحد، أم للضعفاء، وأخت للتائهين، وحبيبة لمن فقد حبيبته، فتجد من يقف على عتباتها، ويبكي:
«يا رب عشان خاطر حبيبتك.. السيدة زينب».
افترض أن لها عند الله خاطرا ضخما يسمح بأن يستجيب لدعوته، لأنها خير وسيط يحمل إلى رب العباد دموع «الغلابة»، ودعواتهم، وورقة «مطوية» بحاجاتهم التي لن تأتى أبدًا، إلا إذا تدخل، أو تدخلت هي، لأنها اليد التي لا تخاف من لسعة النار.
عندما تمنح السيدة زينب عطاياها، وبركاتها التي ليس لها أول من آخر، وتصرف للمقهورين من عندها بلا حساب، يتعامل معها المصريون بـ«دلع».. تجد واحدًا من «سناكيح» مصر القديمة يلف سجائره، ويشدّ «الأنفاس» بوسع صدره حتى يضيع في عالم آخر.
ثم يتوضأ ليصلى الفجر في حضرتها، ويطلب الرحمة والرزق والصحة وراحة البال والشفاء من دخان الحشيش الذي حاول أن يبرأ منه وفشل، ثم زيادة في الدلال والمحبة التي فطر عليها المصريون، ينام على السجادة الخضراء المفروشة أمام مقامها إلى أن يفيق من الغيبوبة، ويطمئن أن الله لا يمكن أن يعذبه لأنه من «حبايب السيدة»، تبدأ مرحلة جديدة، بعد العشم.
يبدأ «العَتَب».
يعاتب المصريون «أم العواجز» لأنها تخلَّت عنهم، تركتهم للفقر والمرض والضياع والحروب المقدّسة مع المجهول، دون أن تتدخل، رغم أنها جارة لا بد أن تحنّ إليهم، وتنقذهم، حالة من حالات «الدلع» المبالغ فيها، فنحن نريد أن يكون عندنا من ينهى كل شيء، لنأخذ أماكننا في الجنة على الجاهز.
أكثر من ذلك أنهم لا يعتبرون السيدة زينب واحدة من أولياء الله الصالحين، أو آل البيت فقط، كل واحد يعتبرها ملكًا خاصًا له، تنفذ له وحده ما يريد، جزء من طبيعة المصريين الذين لا يحتفل غيرهم بيوم ميلادها، رغم أنها لكل المسلمين، حفيدة رسول جاء إليهم جميعًا، لكن أهل القاهرة احتكروها، واحتكروا عيد ميلادها وجعلوا منه عيدًا دينيا شعبيًا لا يشاركهم فيه أحد، رغم إن الاحتفال به في البلد الذي ولدت فيه حرام.
لكن لنا في خلق الله شئون وأغراض وأوهام وطلبات وعشم لا ينتهي.. نحجّ إليهم أحيانًا.
كتب التراث والمساجد القديمة لا تحمل صورة واحدة للسيدة الطاهرة ولا وصفا دقيقا لملامحها، إلا أن هناك في المسجد الذي يحمل اسمها، صورة لها في عيون من لا يرونها، إنما عرفوا سيرتها العطرة: بيضاء.. ترتدى حجابا يشبه حجاب مريم العذراء.. وجمالها الربَّانى يجعلها ملاكًا متواضعا، وأطلّ علينا من شرفته السماوية.
ولكن.. هل يعرف المصريون السيدة زينب فعلا؟
بالطبع لا، يسمعون عن بركاتها، وخيراتها، ومن مسح عتبة ضريحها فشفاه الله من الصرع، ثم يقرأون حكاية سيدة دخلت المقام «مشلولة»، وخرجت منه تجرى، وحكايات أخرى ربما تكون حقيقية، ولا يمكن أن تكون شائعات.
«زينب» الحلم الذي ننتظر منه أن يحقق طلباتنا، ونترجى مساعدتها في الأزمات، ونتغنى بقوتها، ومعجزاتها، وقدرتها على احتواء الضعفاء.. فهى «سَنَد» من خسر الجميع، وخسر نفسه، و«براح» لمن ضاقت به الدنيا وضلّ سعيه.
هذا القالب البشرى الراقى الذي وضعت فيه السيدة زينب لم يمنعنا من البحث والتفتيش وراء سرها. السيدة زينب تحملت ما لا يقدر عليه بشر، ويروى محمد الباز في كتاب «الإسلام المصري» مذكرات «أم العواجز» كما جرت وقائعها بالضبط، يقول:
«شهدت مقتل أخيها الحسن بعد أن غدرت به زوجته، ووقفت على اغتيال أخيها الحسين وهو يجز رأسه، واقتحمت مشاهد قتل صغار بيتها، لكنها دفنت أحزانها في قلبها، ومضت لتحافظ على ما تبقى من أهل بيت الرسول- صلى الله عليه وسلم».
بدأت مأساة السيدة زينب مبكرًا، ولم تكن كربلاء إلا الحلقة الأولى من الحزن الكبير بعد أن أحاط جيش يزيد بالحسين، خرجت من خيمتها وقالت في أسى لعمر بن سعد، قائد الجيش: «يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر؟»، لم يجبها عمر بشيء، فقد كان الموقف أكبر منه وأعظم، وما هو إلا فتى مأمور من سيد ظالم، وكأنه لم يكن كافيًا على زينب أن تشهد مقتل الحسين فشهدته، وهو يمثل به شر تمثيل.
مات الرجل إذن، وبقيت زينب وبدلا من أن تترك لأحزانها جروها إلى أحزان أعظم، فبعد المعركة ساق الطغاة ذرية الرسول في موكب ضم السيدة زينب وأختها، أم كلثوم، وابنتى الحسين، فاطمة، وسكينة، وبقى في الركب زين العابدين على بن الحسين، ليحفظ ذرية الرسول من الفناء.
خرج الركب الطاهر على أقتاب الجمال بغير غطاء، وعندما بدءوا السير مرَّت السيدة زينب على ما قطع قلبها، رأت مصارع الشهداء، جثث أهل البيت متناثرة، وأشلاؤهم يختلط دمها بالتراب، فقد بقيت الجثث ٣ أيام ملقاة على صخور كربلاء.
لم تجد السيدة زينب ما تقوله، فصرخت والألم يمزق قلبها: «يا محمداه.. هذا حسين بالعراء، مقطع الأعضاء وبناتك سبايا، إلى الله المشكتى، وإلى محمد المصطفى، وإلى على المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزة سيد الشهداء».
دخل موكب السبايا إلى الكوفة، وما أن وقعت أنظار أهلها على آل البيت الشريف حتى أقبلوا يعطون الأطفال وهم على محاملهم بعض التمر والخبز والطعام، فصاحت فيهم السيدة أم كلثوم: «يا أهل الكوفة إن الصدقة حرام علينا، ثم أخذت من أيدى الأطفال وأفواههم ما أخذوه من أهل الكوفة، وألقت به في الأرض».
بكت نساء الكوفة بحرقة على ما صار إليه أهل البيت النبوى، لكنها قالت: «يا أهل الكوفة.. يقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم فالحاكم بيننا وبينكم الله».
وقف أهل البيت أمام بن زياد، حاول أن ينال منهم، وقال للسيدة زينب: «الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم»، لكن السيدة زينب ردَّت بثقة: «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه، وطهرنا من الرجس تطهيرا، فضح الفاجر وكذب الفاسق وهو غيرنا».
حين قابلت «يزيد بن معاوية» وجهًا لوجه، استفزته.. قالت له: «خرجت من الملة، واخترت دينا غير ديننا»، زاد غضبه، فردَّت عليه وهو يعبث برأس «الحسين» الشهيد: «يا يزيد.. أنت أمير تشتم ظلمًا، وتقهر بسلطانك، فكف عن الكلام».
انتهت الحكاية، وليعود كتاب «الإسلام المصري» إلى رفوف المكتبة مرة أخرى.
«الحسين» من أبطال قصة عودة السيدة زينب إلى مصر، هناك من يقول إن رأسه دفنت هنا، فقد اصطحبت «حفيدة الرسول» أجزاء من جسده إلى القاهرة، حين قرَّرت أن تستقر على أرضها، دون غيرها من بلاد الله الواسعة.
وهناك من يقول: إن جثمان «الحسين» بالكامل انتقل معها ليدفن في ضريحه القريب من شارع «المعز»، كرامة لآل بيت النبيّ.
والقصة الثالثة تقول: إنه لم يزر القاهرة حيًا ولا ميتًا، ولم ينزل شارع «المعز» أبدًا.
أين الحقيقة إذن؟
ما يستقر في ضمير المصريين أن كل آل البيت مرَّوا من هنا، وانتهى بهم المقام في القاهرة، فهذه الأرض ليست مسكونة بالعفاريت فقط، وإنما ببصمات من نسل الرسول أيضًا.
اختارت السيدة زينب القاهرة لتموت فيها، فقد عاشت ما لم تعشه امرأة، وقضت ما عليها، حتى نالت نورًا لا ينطفئ، يطل من جسدها الهادئ، فمن يوقد شمعة فوق المقام لا يريد أن تنير قبر السيدة الطاهرة، وإنما ينتظر منها أن تنير له حياته.
من بين القصص الكثيرة جدا التي تروى عن السيدة زينب، أنها سمعت من عابر سبيل لا يعرفها عن محبة أهل مصر «غير المبرَّرة» لآل بيت رسول الله، فطلبت أن تزور القاهرة، ومن يومها أصبحت «السيدة الأولى»، ولم تسلم من طمعهم في البركة، ولا محبتهم لرائحة «دم الحسين»، ولا يسألون ما أتى بها إلى هنا.. يكفى أن بعضًا من عطر الرسول يسكن أرضهم.
النسخة الورقية