الأربعاء 25 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

افتتاح المبنى الجديد لدار الوثائق القومية يعزز حماية الذاكرة الثقافية المصرية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بارتياح بالغ استقبل العديد من المثقفين المصريين نبأ افتتاح المبنى الجديد لدار الوثائق القومية كحدث ينطوي على دلالات متعددة لصالح حماية الذاكرة الثقافية المصرية والعربية، فيما حق لرئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب أن يصف هذا الحدث بأنه "يوم سيذكر في تاريخ الثقافة المصرية".
وبحضور الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة كان محلب قد افتتح أمس الأحد المبنى الجديد لدار الوثائق القومية بمدينة الفسطاط بالقاهرة ومعه وزير الثقافة الدكتور عبد الواحد النبوي، كما شهد حفل الافتتاح الدكتور سلطان الجابر وزير الدولة الإماراتي.
وفيما حرصت شخصيات عامة وقامات ثقافية على حضور حفل الافتتاح لهذا الصرح الثقافي المصري الجديد الذي وصفه محلب بأنه "يليق بحجم مصر وتاريخها"، فقد لفت رئيس الوزراء لقيمة ما تحتويه الدار من وثائق، مشيدا بالجهد المبذول للحفاظ عليها.
وإذ أكد محلب أهمية وجود استراتيجية واضحة للحفاظ على الأوراق والمستندات المتعلقة بتاريخ هذه الأمة بوصفها جزءا من التراث الإنساني خاصة أن حراك الأمة المصرية بكل مؤسساتها ينتج عنه ملايين الأوراق التي تسجل الأحداث المصرية، فإن هذه الاستراتيجية باتت تشكل ضرورة ثقافية لا غنى عنها فضلا عن أهميتها لمواجهة وإحباط أي مخطط للسطو على ذاكرة مصر.
وفي السنوات الأخيرة راحت أجراس الخطر تدق محذرة من استفحال مخطط السطو على ذاكرة مصر سواء بسرقة المخطوطات النادرة أو الوثائق التاريخية، ناهيك عن الآثار، بينما تتوالى المؤشرات التي تثير التوجس بقدر ما تدعو لضرورة التحرك لحماية الذاكرة المصرية وفي الوقت ذاته تيسير سبل اطلاع الباحثين على الوثائق.
وكان العديد من محبي روايات الأديب المصري النوبلي نجيب محفوظ قد تابعوا بقلق في الآونة الأخيرة وقائع قضية عرفت "بسرقة مخطوطات محفوظ" حيث استولى البعض على أوراق كتبها الأديب الكبير وعرضها للبيع في صالة مزادات بلندن دون إذن من عائلته.
وبينما أصدر القضاء المصري العادل حكما ضد مرتكبي هذه الواقعة وأعاد الأمور لنصابها، فإن القراءة الثقافية للتفاصيل تخلص لضرورة وجود معايير وآليات واضحة تحول دون العدوان على التراث الثقافي لمصر وذاكرتها ومبدعيها.
وبحسه القومي العروبي وقلبه المفعم حبا لمصر فضلا عن كونه قامة ثقافية عربية شامخة، قال حاكم الشارقة في سياق الاحتفال بافتتاح المبنى الجديد لدار الوثائق القومية إنه حينما احترق المجمع العلمي بالقاهرة وكانت الكتب تحترق بالداخل "كان قلبي يحترق معها".
وأعاد الدكتور عبد الواحد النبوي للأذهان أن الدكتور سلطان بن محمد القاسمي هو الداعي لإنشاء مبنى جديد لدار الوثائق عقب زيارته لدار الوثائق القومية بكورنيش النيل حيث بدأ تنفيذ المشروع منذ عام 2003 بعد أن أعلن حاكم الشارقة عن المبادرة بتكلفة 100 مليون جنيه.
ولعل دار الوثائق القومية بما تمتلكه من ثروة هائلة من التراث الوثائقي في شتى المجالات وتكاد تكون المصدر المحلي الوحيد لكثير من الأحداث التاريخية في مصر والمنطقة - كما أشار محلب - تشكل قلعة منيعة لحماية الذاكرة الوطنية المصرية بل والذاكرة القومية العربية.
وإلى جانب الوثائق التي تمس الأمن القومي المصري، فإن مخطط السطو على ذاكرة مصر كما تبدى في مرحلة عصيبة اجتازها الوطن يشمل حرق أو سرقة المخطوطات النادرة والوثائق التاريخية، ناهيك عن الآثار بينما توالت المؤشرات التي أثارت التوجس بقدر ما دعت لضرورة التحرك لحماية الذاكرة المصرية وفي الوقت ذاته تيسير سبل إطلاع الباحثين على الوثائق.
وفيما أكد وزير الثقافة أن المبنى الجديد يسع 600 مليون وثيقة، فقد نوه بأن دار الوثائق القومية من أهم خمسة أرشيفات على مستوى العالم معيدا للأذهان أن مصر حريصة دائما على توثيق تجربتها منذ فجر التاريخ على جدران المعابد وورق البردي واستمر هذا التوجه التاريخي في الاهتمام بالوثائق حتى بات جزءا من الهوية المصرية.
ويتكون المبنى الجديد لدار الوثائق بالفسطاط من خمسة طوابق من بينها ثلاثة طوابق لحفظ الوثائق كما يضم المبنى مراكز الترميم وصيانة الوثائق والندوات والتدريب والتاريخ الشفاهي وقاعة للاطلاع، فضلا عن متحف وجرى تصميم المبنى الذي بلغت مساحته 5000 متر مربع على أحدث نظم الإدارة الذكية في تأمين الوثائق والإنذار والإطفاء والغلق والفتح الإلكتروني والمراقبة بالكاميرات والفحص الإلكتروني للدخول والخروج.
وإذا كان لشخص ما أن يتساءل عن أهمية هذه الأوراق في الأرشيف فإن الباحث خالد عزب يرد قائلا "إنها الذاكرة الوطنية التي تحمل أدق تفاصيل العمل في دولاب الدولة المصرية ويمكن من خلال تربيط العديد من الوثائق مع بعضها استنباط معلومات عن الدولة والمجتمع".
ولذا - كما يقول خالد عزب - "جاءت قرارات بعض الدول بحجب وثائقها لفترة زمنية محددة بهدف حماية الأمن القومي لهذه الدول"، فضلا عن أن هذه الوثائق عادة ما تكون كاشفة لتاريخ المجتمع والدولة، ومن ثم فإن فقدانها يكون كارثة على الباحثين في التاريخ ودارسيه.
وفي بلد مثل أمريكا قد تتحول هذه الوثائق بعد رفع السرية عنها إلى كتب تثري الحياة الثقافية وتكشف مناطق معتمة للباحثين مثل كتاب "محاضر كيسنجر" الذي سلط أضواء كاشفة على الشرق الأوسط في مفاوضات مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر مع القادة السوفييت والصينيين في سنوات السبعينيات من القرن العشرين.
واللافت والدال أن محرر هذا الكتاب وليام بير كان يشغل منصب "كبير محللي أرشيف الأمن القومي الأمريكي"، وهذا الأرشيف جزء مما يسمى "بالأرشيف القومي الفيدرالي للولايات المتحدة"، والذي يضم باحثين بمقدورهم إعداد مثل هذا الكتاب الهام من وثائق حكومية مفرج عنها أو منزوع عنها خاتم السرية.
وعلى امتداد فصوله، نجح الكتاب في أن يقدم سجلا حافلا بالمعلومات التاريخية الهامة ومن هنا وصف بأنه واحد من أهم سجلات الحرب الباردة على حد تعبير الصحفي الأمريكي باتريك تايلرن والذي عمل لعدة سنوات مديرا لمكتب صحيفة "نيويورك تايمز" في العاصمة الصينية بكين.
وهذا الكتاب الذي حرره باحث متخصص في الأرشيف وهو كبير محللي أرشيف الأمن القومي الأمريكي فتح الباب أمام تقييمات جديدة وفعالة لسنوات حافلة اضطرمت فيها الأحداث وشهدت اتخاذ عدد من القرارات المصيرية.
وفي سياق تناولها للقرار الخاص بهدم مقر الحزب الوطني البائد أشارت الكاتبة الصحفية الكبيرة سناء البيسي إلى أن العديد من الوثائق الهامة لثورة 23 يوليو 1952 كانت "محفوظة داخل خزائن في دور مستتر" بهذا المبنى الذي احترق أثناء ثورة يناير 2011، معتبرة أن هذا الحريق "كان بداية لمخطط محو ذاكرة مصر".
وترى سناء البيسي أن هذا المخطط يشمل ذاكرة مصر التاريخية والحديثة معا مستعرضة أحداث حرق المجمع العلمي والمتحف الإسلامي وسرقة 1050 قطعة من أصل 1089 قطعة أثرية بمتحف ملوي، فضلا عن حرق مركز البحوث والوثائق بالطابق الأخير في مبنى كلية الهندسة بجامعة القاهرة.
وتطرقت الكاتبة في جريدة "الأهرام" إلى جريمة سرقة وثائق بالغة الأهمية من القصور الرئاسية أثناء حكم الجماعة التي ثار ضدها الشعب وأسقطها، و"مقايضة أسرار الوطن بالدولار مع الخونة على قارعة الطريق"، لتخلص إلى أن هناك محاولات "مع سبق الإصرار والترصد لضرب الذاكرة التاريخية والأمن الوطني المصري في مقتل".
وفي سياق متصل، أعاد الشاعر والكاتب فاروق جويدة للأذهان مسألة غياب وثائق ثورة 23 يوليو 1952، وقال "إن تاريخ ثورة يوليو تحول إلى دهاليز سرية لا يستطيع أحد أن يعبر فيها دون أن يصيبه شيء من غبارها ورغم اللجان التي تشكلت لجمع تراث هذه الثورة إلا أن معظم الوثائق اختفت ولم نستطع حتى الآن أن نقول إننا كشفنا أسرار ثورة يوليو".
وذهب الباحث خالد عزب إلى أن "حالة من عدم الوعي سادت الدولة المصرية في أعقاب ثورة 23 يوليو بأهمية أرشيف الدولة كمرجع لكل شئونها"، فيما انتقد "الازدواج في إدارة الدولة لحفظ أرشيفها بين دار المحفوظات التي تتبع وزارة المالية ودار الوثائق التي تتبع وزارة الثقافة".
ورغم انتقاداته ومآخذه، فإن خالد عزب رأى أن السنوات الأخيرة شهدت خطوات لا بأس بها، سواء في دار الوثائق بمحاولة حصر أرشيفها أو في دار المحفوظات عبر مشروع نهضت به مكتبة الإسكندرية لرقمنة ملايين الوثائق وهو ما يساعد في جعل الأرشيف الوطني المصري متاحا لكل المصريين.
لكن خالد عزب يعود ليؤكد ضرورة "محاربة ظاهرة الانفلات في أرشيف الدولة المصرية وبناء أرشيف رقمي للدولة"، فيما طالب الدكتور أحمد هويدي أستاذ اللغات الشرقية بجامعة القاهرة الدولة بمبادرة رسمية لجمع كل الوثائق المصرية في الخارج أو الحصول على نسخ منها .. مشيرا إلى أهمية التعامل مع الوثائق في ظل القوانين الدولية، "أي تطبيق ما يسمى بالفترة العمرية للوثيقة حسب التصنيف الدولي وعدم حبسها لسنوات طويلة".
أما الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة الدكتور محمد عفيفي، وهو في الأصل أستاذ للتاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة، فيطالب بوضع المعيار الخاص لحرية تداول المعلومات لأن ذلك هو أساس مشكلة التعامل مع الوثائق.
كما دعا لتقليل مدة حجب بعض الوثائق بحيث تكون 30 عاما بدلا من 50 عاما مثل باقي الدول التي تحترم مبدأ حرية تداول المعلومات ويتم الكشف عن كل هذه الوثائق ما لم تتعارض مع السياسة العليا التي تحددها لجنة مختصة.
ومنذ منتصف ستينيات القرن العشرين كان أحد ألمع أساتذة التاريخ الذين أنجبتهم مصر وهو الدكتور محمد أنيس؛ أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة، قد لاحظ أن أغلب المخطوطات المصرية المتعلقة بالعصر العثماني خرجت من مصر على يد الفرنسيين إبان الاحتلال الفرنسي وطوال القرن ال(19).
واعتبر الراحل الدكتور محمد أنيس عملية نقل المخطوطات المصرية الخاصة بالعصر العثماني ابتداء من الحملة الفرنسية إلى أوروبا "جزءا من عملية النهب الاستعماري التي حدثت لثرواتنا القومية المادية والفكرية".
ويرى باحثون ضرورة أن تكون الوثائق ملكا للدولة لا في حوزة أفراد أو مؤسسات بمعنى أن توضع في الأرشيف الخاص بالدولة المصرية والتي عليها في المقابل حماية هذه الوثائق والحفاظ عليها، فيما كان تصميم المبنى الجديد لدار الوثائق بالفسطاط قد فاز بجائزة أفضل مبنى لحفظ الوثائق في مؤتمر المجلس الدولي للأرشيف الذي عقد عام 2008 في ماليزيا.
ويضع "المجلس الدولي للأرشيف" بشكل دائم معايير زمنية بشأن مسألة إتاحة الوثائق وهى معايير يجري تدريسها في أقسام الوثائق والمكتبات بالجامعات المصرية غير أن العديد من المؤسسات الخاصة بالوثائق في مصر لا تعمل بها كما تقول الدكتورة سلوى ميلاد أستاذ الوثائق بكلية الآداب جامعة القاهرة.
وإذا كانت الأحداث التي أعقبت ثورة 25 يناير قد لفتت الأنظار لأهمية الحفاظ على وثائق مصر التاريخية، فإن الصحف ووسائل الإعلام المصرية تحركت في الاتجاه ذاته واستطلعت أراء العديد من الباحثين والمتخصصين في علوم الوثائق والمكتبات.
ورأى الدكتور عبد الستار الحلوجي؛ أستاذ الوثائق والمكتبات أن القانون الجديد للوثائق لابد وأن يضمن الحفاظ على الوثائق بكل السبل الممكنة باعتبارها جزءا من تراث الأمة.
ودعا الحلوجي لتيسير الاطلاع على الوثائق وإتاحتها للباحثين بمقابل مادي معقول، معتبرا أن وضع القيود على استخدام الوثائق بحجة الحفاظ عليها هى كلمة حق يراد بها باطل، وأضاف "نحن مع الحفاظ على الوثائق لكننا نحافظ عليها كي يستفيد منها الباحثون وهذا هو الفرق بين دار الوثائق والمتحف".
فالمتحف يحتفظ بمقتنياته ولا يتيح استخدامها، أما دار الكتب ودار الوثائق فرسالتهما الأساسية هى استخدام ما تقتنيه من مصادر المعرفة التي يحتاجها الباحثون في بحوثهم، فيما تطالب الدكتورة سلوى ميلاد؛ أستاذ الوثائق بكلية الآداب جامعة القاهرة بتحقيق المعادلة الصعبة أي إتاحة الوثائق والحفاظ على أمنها.
ونوهت ميلاد بأن الإتاحة أمر ضروري وهدف أساسي من أهداف دور الأرشيف الخاص بالوثائق، مؤكدة أن الهدف من دار الوثائق هو حفظ ذاكرة الأمة، "فالإنسان الفاقد ذاكرته لا يستطيع أن يعيش مستقبله"، فيما أوضحت أن معايير الإتاحة لابد وأن تكون مرتبطة باحتياجات المستفيدين أنفسهم.
وكانت الدكتورة إيمان أبو سليم أستاذ الوثائق بكلية الآداب قد طالبت بضرورة استقلال دار الوثائق عن دار الكتب حتى يكون لها شخصيتها الاعتبارية.
للمعرفة أبواب والوثائق من أهم هذه الأبواب.. البعض يريد ألا يبقى لنا من الذاكرة سوى التراب حتى لا نعرف إلى أين تتجه الصعاب ولا نجد ملاذا عندما يداهمنا الغياب ونتحول إلى أيتام على مائدة عالم ضنين! لكن مصر قادرة على الدفاع عن ذاكرتها، ومن هنا فإن ما حدث بالأمس هو بالفعل "يوم سيذكر في تاريخ الثقافة المصرية".