«يا طارق قول لأخوك.. الأهلاوية بيستوك»، هذا هو الهتاف الذي اشتعلت به، مدرجات الدرجة الثالثة، طوال شهر أبريل من عام 2002 عندما كان المايسترو يرقد في مستشفى لندن كلينيك بعد إجرائه جراحة في الأمعاء لاستئصال جزء منها بعد إصابته بمرض السرطان.
سرعان ما تحول هذا الهتاف إلى صراخ وعويل وبكاء للملايين من محبيه بعد تأكد خبر وفاته في السادس من مايو 2002.
حب متدفق وشعبية عارمة، تعيد إلى الأذهان المقولة التي رددها المصريون يومًا، والتي راحت تؤكد أن «الإجماع الشعبى لم ينعقد لأحد في مصر والوطن العربى سوى لثلاثة: جمال عبدالناصر، أم كلثوم، وصالح سليم.. لحق بهم بعد 30 يونيو 2013 المشير عبدالفتاح السيسى فباتوا أربعة.
فلم يحدث أن اجتمع قلب الأمة على شخص واحد مثلما حدث مع هؤلاء الأربعة الكبار، والمايسترو واحد منهم.
يقول عنه الناقد الزملكاوى الشهير محيى الدين فكرى: إن صالح سليم كان عميدًا لعائلة الدوغرى، فاستحق بجدارة وصف نجيب المستكاوى شيخ النقاد الرياضيين، عندما لقبه بـ«المايسترو».
شارع عكاشة
ولد صالح سليم في الحادى عشر من سبتمبر عام 1930 بحى الدقى بالقاهرة لأسرة ميسورة، الوالد الدكتور محمد سليم إخصائي تخدير ومستشار بالخاصة الملكية، والأم السيدة «الشريفة زين» سليلة أشراف الحجاز، كان صالح الشقيق الأكبر لأخوين صغيرين هما: عبدالوهاب سليم وطارق سليم، الذي يصغره بثمانى سنوات، وفى المنزل الذي كان يقطن دوره الأول أسرة كامل باشا الوكيل تعرف صالح سليم لأول مرة على الساحرة المستديرة، ففى حديقة المنزل المكون من دورين كان يلعب شمس الوكيل النجل الأكبر لكامل باشا الوكيل الكرة، وكان صالح يراقبه من النافذة المطلة على الحديقة، ولكنه لم يحتمل المراقبة وسرعان ما لبى دعوة شمس الوكيل ونزل ليلعب معه لتبدأ من يومها– كان عمر صالح سليم وقتها سبعة أعوام– علاقة عشق عميقة بالساحرة المستديرة، ظلت جذوتها متقدة حتى آخر نفس في حياة المايسترو.
عندما دقت طبول الحرب العالمية الثانية أبواب مصر، انتقلت الأسرة إلى ضاحية المعادى خوفًا من خطر القصف، وعندما اتضح لرب الأسرة أن المعادى أكثر عرضة للقصف من الدقى، نظرًا لتواجد عدة مواقع للجيش الإنجليزى، عاد بأسرته ليستقر بهم في شارع عكاشة بالدقى.
التحق صالح بمدرسة الأورمان الابتدائية، حيث كان يذهب إليها قبل بداية طابور الصباح بساعة على الأقل كان يقضيها مع زملائه في مداعبة الساحرة المستديرة بفناء المدرسة، ولكن صالح لم يتعرف على كرة القدم في شكلها الحقيقى إلا في شارع عكاشة، حيث اشترى هو وأصدقاؤه كرة قدم حقيقية وشكلوا فريقًا حمل اسم شارعهم، وبجوار كشك عم عبود، بدأ تاريخ صالح سليم الحقيقى مع الساحرة المستديرة، حيث كانت المنافسة مشتعلة بين فرق الشوارع المختلفة، وعلى رأسها فريقا شارع عكاشة وشارع هارون.
مرت الأيام بصالح سليم ما بين فريق مدرسة الأورمان وفريق شارع عكاشة، حتى التحق بالمدرسة السعيدية الثانوية، وانضم إلى فريقها، وهناك كان صالح على موعد مع القدر، حيث التقطته عين حسين كامل مدرب الناشئين بالنادي الأهلي، وكشاف النادي في ذلك الوقت، وهناك وداخل أروقة الأهلي كان اللقاء الأول بين الأسطورتين «مختار التتش» وصالح سليم، حيث قام التتش بضم صالح لمدرسة الكرة التي كان ينتقى لها العناصر التي تتمتع بمهارات خاصة.
كانت تلك البداية في عام 1944، ومن يومها وهب صالح سليم نفسه للكرة وللنادي الأهلي، تغيرت المواسم وتبدلت الفرق وتنقل اللاعبون من نادٍ إلى نادٍ وظل صالح سليم وفيًا للأهلي، فلم يلعب لفريق مصرى غيره طوال حياته، كان يقضى وقته كله في النادي، أهمل دراسته فمكث في المرحلة الثانوية عشر سنوات، لعب صالح لأول مرة ضمن صفوف الأهلي، مباراة رسمية، في 24 أكتوبر عام 1948، أمام فريق يونان الإسكندرية وآخر مباراة أمام فريق الطيران في 11 نوفمبر عام 1966، حقق صالح سليم للأهلي تسع عشرة بطولة «11 بالدوري العام و8 بكأس مصر» وسجل صالح سليم 78 هدفًا في الدوري و14 هدفًا في الدوري النمساوى وفى خضم كل هذه البطولات سجل صالح سليم رقمًا قياسيًا في عدد الأهداف المسجلة في مباراة بمفرده في مرمى الإسماعيلى في المباراة التي فاز فيها الأهلي بثمانية أهداف على الإسماعيلى في الدوري العام موسم 58/59، كما شارك الجوهرى هدفًا من ضربة جزاء هو الأول من نوعه في تاريخ الكرة المصرية، حيث فوجئ الجميع بصالح الذي تصدى لضربة جزاء في مباراة الأهلي مع المنيا يمرر الكرة للجوهرى الذي أحرز منها هدفًا لتنتهى المباراة 5/صفر لصالح الأهلي، وذلك في الدوري العام موسم 1962.
المايسترو والسينما
كانت السينما في حياة صالح سليم عبارة عن أداة تسلية، فلم يفكر لحظة أنه في يوم من الأيام سيقف أمام الكاميرا ممثلًا رغم صداقته العميقة لعدد من كبار نجوم التمثيل وقتها- أحمد رمزى وعمر الشريف وفاتن حمامة– ولكن عندما قدم استقالته لهيئة قناة السويس احتجاجًا على إيقاف راتبه من قبل المسئولين بالهيئة- والذي اعتبره صالح جرحًا لكرامته– وانقطاع المساعدة المالية من والده احتجاجًا منه على رسوب صالح سليم المتكرر في الدراسة، في هذه اللحظة الحرجة وفى الوقت الذي يطالبه عدد كبير من النقاد بالاعتزال، جاء صوت الفنان أحمد رمزى– صديق عمره– عبر التليفون ليخبره أن المخرج عاطف سليم يريده للعمل معه في فيلم من إخراجه، وفى شقة أحمد رمزى وفى سرعة شديدة، وتحت ضغط الحالة النفسية التي كانت مسيطرة على «المايسترو» وقع صالح عقد فيلم «السبع بنات» وتقاضى أجرًا عن دوره بلغ مائة وخمسين جنيهًا، مثل صالح سليم بعد ذلك فيلمين لعل أشهر هذه الأفلام الثلاثة جميعًا «الشموع السوداء» أمام نجاة الصغيرة.
في عام 1976 عندما فشل صالح سليم في إقناع نور الدين طراف بالتقدم للترشيح لمنصب رئيس النادي الأهلي لمسايرة التغيير الكبير الذي حدث، وشمل كل شيء داخل وخارج النادي، والذي يحتاج إلى رؤية جديدة وجيل جديد في مركز القيادة، تقدم هو وسط دهشة الجميع ليحصل ودون دعاية تذكر على ثلث عدد الأصوات، ولكنه لم ييأس وتقدم في عام 1980، منافسًا للفريق مرتجى ليفوز باكتساح ويحصل على 70% من أصوات الجمعية العمومية، ولتبدأ أول دورة له كرئيس للنادي، وتتوالى انتصارات وإنجازات صالح سليم طوال عشرين عامًا، ترك فيها منصب رئيس النادي بإرادته عامين ما بين 1988 - 1990 ليعود مكملًا دورة عبده صالح الوحش وليظل على عرش الأهلي حتى وفاته، قدم صالح للأهلي في كل مرة وجوهًا جديدة شابة للقيادة، فقد كان يؤمن بأن هذا النادي العريق يستحق منه الكثير، فقد كان الأهلي الذي نشأ عام 1907 كمتنفس رياضى لنادي طلبة المدارس العليا، معقل الوطنية المصرية بحق، فقد كان طلبة المدارس العليا– وقود الحركة الوطنية المصرية في ذلك الزمان– وقد أنشئ النادي ليعبر عنهم، وليفتح أبوابه على مصاريعها لكل المصريين ردًا على احتكار الإليت وطبقة الأجانب والطبقة الراقية للنوادى الأخرى وحرمان المصريين من دخولها، وعندما اختار المؤسسون اسمًا للنادي لم يجدوا سوى كلمة «الأهلي» لتعبر عن رؤيتهم لدوره كنادٍ، كان صالح سليم الذي اقترن اسمه بالأهلي واقترن الأهلي به يعرف تاريخ ناديه جيدًا، فهو الذي خرجت منه كتائب الوطنية المصرية في ثورة عام 1919، وفى حرب فلسطين عام 1948 لتعلن في وضوح كامل انحياز الأهلي كنادٍ وأعضاء للروح الوطنية المصرية، لذلك فقد كان الأهلي النادي الوحيد الذي رفض أن تذهب أي فرقة من الفرق الرياضية التي ترتدى فانلته إلى إسرائيل، وعندما بعث الوزير الفلسطينى حسن عصفور إلى النادي بدعوة للعب في غزة رفض صالح سليم– الذي يحمل تاريخًا من العراقة فوق ظهره– لأن اللاعبين سيدخلون غزة بتأشيرة إسرائيلية، وقال ساعتها قولته المشهورة «عندما أموت افعلوا ما تريدون أما وأنا حى فلا».
يقول عنه صديق عمره الناقد الرياضى حسن عثمان: «ما يميز صالح سليم في علاقته بالآخرين هو الصدق في القول والإخلاص في العمل، فهو يعطى ثقته بلا حدود للشخص الذي يرتاح إليه، فإذا خان الأخير هذه الثقة يلغيه تمامًا من حياته، فصالح سليم لا يعرف في حياته وفى علاقاته سوى اللونين الأبيض والأسود، لم تطأ قط قدماه المنطقة الرمادية»، ويضيف عثمان: إن صالح سليم لم يكن في يوم من الأيام متعاليًا أو متعجرفًا كما يشيع البعض، وإنما كان إنسانًا بسيطًا يعتز بنفسه كغالبية المصريين يحاول الحفاظ على كرامته فهى مفتاح شخصيته، وأذكر أننى دعوته يومًا لحفل صغير أقمته في منزلى لمناسبة خاصة وحضر مع صالح عدد كبير من الأصدقاء، على رأسهم الفنان عادل إمام والناقد الرياضى عبدالمجيد نعمان، وكنت وقتها أقطن في شقة صغيرة بمنطقة الأغاخان، وكانت المقاعد المتوافرة قليلة لا تكاد تكفى كل الضيوف، ففوجئت بالكابتن صالح سليم يجلس على الأرض ليشاركنا فرحتنا، كان يقول– رحمه الله - لماذا يضطر الإنسان للكذب أو النفاق، ولماذا لا يكون صريحًا مع نفسه صادقًا مع الآخرين، فيكسب بذلك احترام الأعداء قبل الأصدقاء.. هذا هو صالح سليم الذي احترمه أعداؤه وأحبه أصدقاؤه، فاستحق بجدارة أن يسكن قلوب الملايين.