تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
في مدرجات كلية الإعلام جلست لأتعلم من الدكتور محمد عفيفي، كان يدرس لنا مادة التاريخ المعاصر، لم يمر مرورًا عابرًا مثل أساتذة آخرين، بل ترك أثرًا بعلمه وخبرته وبساطته وقدرته على تحويل الأحداث الجافة إلى كائن حى من لحم ودم، فلم يكن خوجة جامعيًا ينتهى من محاضرته بملل شديد، بل كان عاشقًا لما يقدم لطلابه، يستمتع بما يقدمه لهم، لا بإرهاقهم.
سألته مرة عن الطريقة المثالية للإجابة عن أسئلته في الامتحان، فقال بعفوية شديدة: اكتب ما تراه ضروريا فقط، لا تشغل نفسك بتفاصيل لا قيمة لها، فأدركت من يومها أنه عالم في تخصصه، لا تشغله صغائر الأمور بقدر ما يهتم بحقيقة الأحداث ودلالاتها.لسنوات طويلة مضت كنت أتابع أخباره وأقرأ دراساته ومقالاته، وعندما حصل على جائزة
الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، قبل ثورة يناير، جلست إليه نتحاور حول الأوضاع التي تحاصر مصر، وجدت لديه حلًا عبقريًا يدل على وعى مؤرخ يدرك جيدًا طبيعة الأحداث ومجرياتها.
قال لى يومها: مصر تحتاج للعبور من أزمتها إلى جسر، شخص من داخل نظام مبارك لم يشارك في حالة الفساد العامة التي أصبحت السمة العامة للبلاد، وبعد ذلك نبحث عن رئيس من خارج النظام، يومها تحدث عن عمر سليمان وقدرته على أن يقوم بهذا الدور، حالت الأحداث دون أن يتمكن سليمان من القيام بهذا الدور، لكننى أعتقد أن نظرية الدكتور عفيفى تحققت بعد ذلك مع عبدالفتاح السيسي.
فنحن أمام قائد عسكري عمل داخل منظومة نظام مبارك الذي رحل وهو مدير لجهاز المخابرات الحربية، لكنه لم يتلوث بفساد النظام الذي ثار عليه المصريون، وأغلب الظن أنه سيكون قادرًا على العبور بمصر من عصر لا يزال يكبلها إلى عصر أكثر رحابة واتساعًا.
أنهيت حوارى مع الدكتور عفيفى بجملة حقيقية جدًا ومحددة جدًا، قلت: انتظروا هذا الرجل فهو قادم لأنه يملك ما يقوله وما يفعله أيضًا.
عندما تولى الدكتور عفيفى مسئوليته فى المجلس الأعلى للثقافة، تفاءلت خيرًا، فقد جاءت اللحظة التي أصبح فيها الرجل المناسب في مكانه المناسب، وخلال عشرة شهور تمكن الدكتور عفيفى من تأكيد هذه الحقيقة المفقودة في مصر، فقد نفخ من روحه في كل شرايين المجلس، ليتحول الجسد الهامد إلى كتلة من نار.
هذا الإنجاز الذي قدمه الدكتور عفيفى كان مزعجًا للبعض، فهو دون أن يخطط لشىء قدم أوراق اعتماده للرأى العام والوسط الثقافىومن يديرون شئون البلاد، فبدأ الذين في قلوبهم مرض في حصاره.
ورغم هذه الحالة التي خلقها الدكتور عفيفى في المجلس فإنه لم يعدم من يتربص به، فالموهبة في مصر مثل الجريمة، عندما تظهر فلابد أن يعاقب صاحبها.. أمسك من يغيظهم نجاحه بما يدعون عن طلبه سيارة معينة حتى يتنقل بها، وكأنهم يستكثرون عليه شيئا هو فعليا أقل مما يستحق.
ما جرى وعرفته عبر مصادر كثيرة أن الدكتور عفيفى خلال الشهور الأولى لعمله في المجلس كان ينوب عن الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة وقتها في كثير من الفعاليات، وكان بعضها في الإسكندرية التي كان يسافر إليهابالقطار، رغم ما في ذلك من خطورة عليه، فهو وجه معروف، وكانت مظاهرات الإخوان لا تزال
ساخنة وتهدد الجميع.
عندما طلب جابر عصفور سيارة لأمين المجلس الأعلى للثقافة، ردت هيئة الخدمات الحكومية بأنه توجد سيارة فيرنا وأخرى بى إم دبليو، فأخبرهم جابر بأن تكون السيارة بى إم دبليو لأنها ستكون لتنقلات أمين المجلس الذي هو على درجة نائب وزير.
لم يطلب الدكتور عفيفى شيئا لنفسه، ولن يطلب، فهو كما عرفته من اللحظة الأولى يتعالى على التفاهات، وكان من حقه أن يغضب كما سمعت مما يتردد من حوله، وكان له أن يغضب أكثر عندما أخبره البعض أننا نشرنا هذا الكلام عنه هنا في "البوابة"، وهو ما لم يحدث على الإطلاق، فما كان لنا أن نترك كل ما فعله في المجلس وما قدمه للثقافة المصرية، وما عمل عليه طويلا من أجل طلابه على طول مصر وعرضها، ونتوقف عند ما لا يجب أن نتوقف أمامه، خاصة أنه لا علاقة له به من الأساس. ويا أستاذى العظيم أعرف أنك غاضب وعاتب، ورغم أننا فعليا لم نقترب من الكلام التافه الذي يريد حاسدوك أن يعترضوا طريقك به.. فإن لك العُتبى حتى ترضى.