لم تعد الكتابة عن الصعيد تطربني.. أنا الملبوس بكل شيء صعيدي.. المكان.. والبشر.. والتفاصيل.. كل شىء هناك حتى مشاهد القبور التي تطاردنى في كوابيسي.. وأنتظر موعد وصولى إليها في أي وقت.. فماذا جري؟!
حينما أقرأ.. أو بالأحرى أهرب من مطاردات الأعمال اليومية في القاهرة الخنيقة، لا أجد ما يرعبنى سوى تلك الروايات التي كتبها محمد خليل قاسم وبهاء طاهر وعبدالوهاب الأسوانى وحمدى البطران وعصمت سيف الدولة عن ناسنا هناك.
وحينما يطاردنى صداع الكاسيت والتليفزيون بأغنيات عمرو دياب ومصطفى كامل وحماقي وأوكا وأورتيجا، لا أجد ما هو أحن وأرحم من سيرة أبو زيد في «شرايط» جابر أبوحسين.. و«تعاويذ» حفني أحمد حسن.. و«مواجيد» التوني والرنان وياسين التهامي.. وإن لم أصل إلى بر أماني فليس لها سوى بليغ حمدي الساحر الذي «صرّ» الصعيد بحالة في «منتصف جملة موسيقية» ورحل.
وحينما يبتليني رأسى الذي لا يتوقف عن الدوران.. من مصاريف المدارس، لأسعار الطماطم.. للأنتريه اللى عايز يتغير.. والعربية اللي لازم تجدد رخصتها في الميعاد.. وليس نهاية بأخبار الحرب في اليمن ومخططات تقسيم الوطن العربي.. وكواليس اصطياد سيدة المطار.. حينما يحدث ذلك فليس لها إلا «مكالمة هاتفية قصيرة مع الحاجة».. هناك في البيت الذي لا تحب إلا هو.. وترفض مغادرته إلا إلى القبر.
من الآخر يعني.. مافيش غير الصعيد هوية.. وهوي.. منه وبه أعيش وإليه سأعود.. إن لم يكن اليوم فحتما سيحدث ذلك غدا.. فلماذا لم يعد يطربنى الحديث عنه إذن.. هل سقط من ذاكرتى مثلما سقط من ذاكرة الحكومة طول عمره؟
أظن وبعض الظن ليس إثما.. أن الصعيد الذي أعرفه أو أزعم أننى أعرفه لم يكن موجودا سوى في خيالي.. يبدو أنه كان حلما.. «يعنى إيه الصعيد»؟! لقد اكتشفت ذلك فجأة منذ قرأت تصريحا لسيادة اللواء عادل لبيب الذي هو وزير كل «القرى والمدن» في بلادي.. والذي يشرف بنفسه على كل المحافظين الذين هم رؤساء جمهوريات محافظاتهم، ومنها محافظات الصعيد قطعًا.. وأكيد هو يعرف أكثر من أي حد عن الصعيد وأحواله «مش كان محافظ قنا» وبيروح يتغدى في بيت «مصطفى بكري» في «المعني»؟!
اكتشفها سيادة اللواء لوحده -على طريقة نيوتن- الصعيد ليس مهمشا.. والتهميش اللى إحنا هاريين نفسنا بيه واللى كل الدنيا اتكلمت عنه بمن فيهم رئيس الجمهورية مجرد أوهام في دماغ الصعايدة! شوفتوا بقى الحكاية سهلة إزاي!! أوهام يا جماعة!! الصعايدة موهومون.. والحكومة اللى سيادة اللواء واحد من أفرادها بتقول كده.. والحكومة دى طبعا غير كل الحكومات اللى جات قبل كده.. وكانت موهومة كمان «زيها زى الصعايدة».. إزاى الحكومات الغريبة توصلت إلى أن أفقر محافظات مصر ولمدة ١٠ سنوات متتالية هي «سوهاج والفيوم وأسيوط».. - تقارير التنمية البشرية تؤكد ذلك - ومش التقارير دي اللي طلعت «موهومة».. لأ كمان كل الجرايد.. والسياسيين.. ومضابط مجلس الشعب.. تتصوروا ما حصلش أن الصعايدة دول اتحرقوا في القطارات.. ولا غرقوا في العبّارات.. ولا أصيب ستون بالمائة من أهله بفيروسات الكبد.. ويمكن ما حدش من أهله استشهد في العريش ولا مطروح.
تصوروا.. المستشفيات الخربة.. والمدارس المهدمة.. والمجارى الطافحة.. والبيوت اللى من غير سقف.. كل ده وهم.. تصوروا.. الملايين التي تنتظر حسنة «بنك الطعام وتبرعات مصر الخير وفتافيت مؤسسة أبوهشيمة».. وهم.. تخيلوا المتنيلين بستين نيلة يندبون حظهم على فساد محاصيلهم من قصب وبصل وبطاطس، أصابها العفن مثلما أصاب السوس نخيلهم.. موهومون العائدون من ليبيا ينتظرون صدقة وزارة التضامن.. والمنكوبون بالحوالات الصفراء في العراق.. موهومون.. الوحيد اللى مش موهوم هو سيادة اللواء عادل لبيب الذي أتحداه أن يخبرنى كم مدرسة بناها في صعيد مصر هذا العام.. وكم مستشفى جدده أو طوره.. وكم طبيبا كلفه.. أتحداه أن يخبرني كم محافظا من أبناء الصعيد في وزارته.. وكم قيادة في حكومته من الصعيد.. أتحداه كم عربة قطار أرسلتها حكومته إلى هناك؟! ومقدما سيكسب سيادته على طريقة نجاحه المزعوم في تطوير قنا التي لا يعرف منها سوى «الكورنيش».. و«بيت صديقى مصطفى بكري».. أما أنا فموهوم حتمًا.