كانت القاعة صامتة تمامًا، الدكتور والفيلسوف والمفكر الكبير الدكتور حسن حنفى، يتحدث مع طلبة الفرقة الثانية من كلية الإعلام عن الجنة، بطريقته الملفتة أغرق فى تأملاته الخاصة، قال إن الجنة ليست طعامًا ولا شرابًا ولا نساء، فالجنة التى أعدها الله لعباده المتقين، ليست إلا إحساسًا بالقرب منه، فأن تكون إلى جوار الله فهذا يكفيك، أما ما جاء فى القرآن الكريم من أوصاف مادية فهى للتقريب فقط، ولا شىء منها حقيقى على الإطلاق.
انتفضت طالبة كانت قد ارتدت الحجاب مؤخرًا معترضة، وغاضبة، قالت له: لو سمحت لى يا دكتور كلامك ليس صحيحًا، لأنه يخالف القرآن الكريم، وليس مطلوبًا منى أن أصدقك أنت دون أن تقدم لى أى دليل على ما تقوله، وأكذب القرآن الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
سألها حنفى: وهل لديك دليل على ما جاء فى القرآن؟ هل رآه أحد، أم أننا قرأنا ذلك فى القرآن فقط؟ قالت: قرأناه فقط، قال لها إذن أنا يمكن أن أكون على صواب، لأنى أقدم تفسيرًا للقرآن وهم يقدمون تفسيرًا، دون أن يدرى أحد منا شيئًا، ويمكن لك أن تقتنعى بكلامى أو لا تقتنعى ولا داعى للغضب.
لم تنصت الطالبة التى تحجبت حديثًا لكلام حسن حنفى، واصلت غضبها، وقالت له: أنا لن أصدقك أبدًا، والجنة فيها فاكهة ولبن وعسل وخمر وما لذ وطاب من الطعام، فابتسم حنفى الذى أدرك أن الفتاة لن تصمت، وقال لها: هنيئًا لك يا آنسة بالخمر والعسل واللبن والفاكهة، أما أنا فلن أشترك معك فيما تريدين.
****
لا يخرج الحديث عن الجنة عن هذا الحوار أبدًا، هناك من يركن إلى أن الجنة التى جعلها الله مكافأة لمن أطاعه ليس معقولًا ولا مناسبًا ولا منطقيًا بالمرة أن تكون مادية مجردة، لا مكان فيها إلا للأكل والشرب والجنس الذى لا ينقطع، وهناك من يرى أن الجنة ليست إلا تعويضًا عن الحرمان الذى يعانيه الإنسان فى الدنيا، وعليه فسيجد فيها كل ما لذ وطاب، وكل ما حرم منه، أو حفظ نفسه من إتيانه من المحرمات، ويدللون على ذلك بالغلمان الملخدين.
وهذه قصة مختصرها أن الإنسان الذى تهفو نفسه إلى مضاجعة الغلمان الصغار فى الدنيا، لكنه يحفظ نفسه، سيجد بغيته فى الآخرة، حيث أعد الله له الغلمان المخلدين، لينهل منهم ما يريده.
أصحاب هذه الرؤية يركنون ظهورهم إلى القرآن الكريم، ففيه جاء ذكر الولدان المخلدين ثلاث مرات.
الأولى فى سورة الواقعة «والسابقون السابقون أولئك المقربون فى جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون».
وفى سورة الطور «ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون».
وفى سورة الإنسان «ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتم لؤلؤًا منثورًا».
أفتح معكم كتاب «خواطر مسلم فى المسألة الجنسية» للكاتب الراحل الذى كان يقدم نفسه على أنه كاتب إسلامى، لأقرأ معكم ما قاله.
ففى الآية الأولى يرى أن الغلمان يعرضون فى مجال التنعم والتلذذ بجمالهم، كجزاء حسن للمؤمنين، مثلهم مثل الأباريق والخمر والفاكهة والطير والحور العين، كلها للمتعة بما فيها من جنس، وإذا كان الولدان وحور العين هم الكائنين العاقلين، وحور العين ثابت فى الأثر ونص القرآن أنهن للاستمتاع الجنسى، وكل الفرق بين الحور العين والولدان أن الحور لؤلؤ مكنون والولدان لؤلؤ منثور، والمفسرون قرروا أن اللؤلؤ المنثور أكثر جمالًا من المكنون، وإن كان المكنون أكثر صيانة وأكثر إثارة للخاطر، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد آثر هؤلاء الغلمان بالجمالين المكنون والمنثور.
وعن الآية الثانية «ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون»، يقول «ابن عباس» سرر منسوجة بالذهب، مرصعة بالدر، متكئين أى حال كونهم مضطجعين على تللك الأسرة، شأن المنعمين المترفين، متقابلين أى وجوه بعضهم إلى بعض، ليس أحد وراء أحد، وهذا أدخل فى السرور، وأكمل فى آداب الجلوس، ويدور عليهم للخدمة أطفال فى نضار الصبا لا يموتون ولا يهرمون.
أما الموضع الثالث الذى احتله الولدان فى القرآن حيث يطوفون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤًا منثورًا، فيقول المفسرون: مضطجعون على الأسرة المزينة بفاخر الثياب والستور، وإنما خصهم الله بهذه الحالة، لأنها أتم حالات التنعم، أى غلمان ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين، مخلدون، أى دائمون على ما هم عليه من الطراوة والحسن لا يهرمون ولا يتغيرون ويكونون على سن واحدة على مر الأزمنة، تجدهم منتشرين فى الجنة، لخدمة أهلها تخالهم لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم كأنهم اللؤلؤ.
يستعرض جلال كشك آراء المفسرين فيما يخص الغلمان فى الجنة، لكنه يحسم كل هذه التفسيرات والتأويلات بقوله: «ومن حقنا أن نفسر قوله تعالى «غلمان لهم» بأنهم غلمانهم فى الدنيا الذين عفوا وتأثموا أو صانوهم عن الفاحشة، فاجتمعوا فى الجنة فى خلود دائم للحظة الرغبة التى كبحت بالتدين».
ويأخذ كشك فى التجويد اللامتناهى، حيث يقول: وإذا كان المفسرون قد اتفقوا على دوام صفة الولدنة، أو خلودهم فى سن الغلمان، فإن الحكمة فى النص على الخلود، هى تأكيد مصدر المتعة فى هؤلاء الغلمان لمن يشتهيهم ودوامها، بعكس ما فى الدنيا من زوال الفتنة بدخول الغلام سن الرجولة، ففى الجنة - كما يقول كشك – لن تنبت لحية شقران أبدًا حتى ينجز وعده لمن أشفق من أهله وخاف من ربه يومًا عبوسًا قمطريرًا، فوقاه ربه شر ذلك اليوم، وجزاه بما صبر جنة وحريرًا، وولدانا مخلدين، مع ثياب سندس وإستبرق وأساور من فضة، أى «هيبيين وبانك»، مما اشتهى فى الدنيا وحرم نفسه منه مخافة ربه.
****
أرى الغضب باديًا فى عينيك مما يقوله كاتب كان يقدم نفسه على أنه كاتب إسلامى، فهل معقول أن الجنة سيكون فيها شذوذ جنسى، وهل ما جعله الله حرامًا على عباده فى الدنيا يحلله لهم فى الآخرة، ثم إذا كان الله، فى تصور البعض سيزيل من الناس شرورهم وخصالهم السيئة قبل أن يخلدهم فى الجنة، ألا يستطيع بالمنطق نفسه أن يعالجهم من شذوذهم ومن ميلهم إلى مضاجعة الغلمان.
على أية حال ليست هذه القصة، فالإشارة فقط إلى أن كلام القرآن عن الجنة محدد جدًا، لكن ما لحق بها وعنها كان مجرد شطحات من البشر، فهم يعبرون عما يرغبون فيه، ويبالغون فى تصوير ما سيجدونه فى الجنة، لكن الأساس الحقيقى الذى وضعه القرآن للجنة بعيدًا عن المبالغات وعن التصوير الذى هدف من خلاله إلي تقريب المعانى إلى البدوى الذى تلقى القرآن من الله فى ملامسته الأولى للأرض، هو أساس فى آية واحدة ومحددة، قال الله خلالها : «وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين».
هذه الآية تحديدًا هى التى تمت ترجمتها بعد ذلك فى حديث قدسى، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إن الله قال: «أعددت لعبادى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، ولا أدرى ما الذى جعل علماء ومفسرين كثرًا على طول التاريخ، يجتهدون فى تصوير الجنة بمبالغات فجة، تجعل النفور من الجنة أقرب من حالة الأنس بها.
كان يمكن لهؤلاء العلماء أن يقفوا تمامًا عند حدود الآية، لكنهم جعلوا من الجنة تجارة، سلعة يبيعونها للمغييبن فى الأرض، حتى يسطوا على أموالهم ويسيطروا على عقولهم، تقدم حتى تحصل على البركة، أعلن السمع والطاعة حتى تحصد النعمة، ليس أمامك طريق إلى الجنة إلا من خلالنا، فكن تابعًا حتى تحقق ما تريد.
*****
من أجل هذا يعتمد شيوخ السلفية تحديدًا على الخرافات التى امتلأت بها كتب التراث عن الجنة، وقلما تجد أحدًا من دعاة السلفية لم يقدم لجمهوره خطبة عنوانها «نعيم الجنة»، ومن الصعب أن تجد اختلافًا بين ما يقولونه أو يذهبون إليه، فهم يشربون من نفس المنبع.
أن أفتش كثيرًا فى كتب التراث، سأتوقف بكم قليلًا عند كتاب «التذكرة... فى أحوال الموتى وأهل الآخرة»، وهو كتاب للإمام القرطبى، والقرطبى يستمد شهرته لدى من يعرفه من عموم المسلمين من تفسيره الشامل الذى وضعه لآيات القرآن الكريم، حيث يعتبر ـ التفسير وليس القرطبى ـ من أمهات كتب التفسير، تذكرة القرطبى تتعرض لأحوال الموتى وما يجرى عليهم بعد الموت، وكذلك ما يقع من أحداث فى الجنة والنار، كل ذلك من خلال الأحاديث النبوية ورؤى الصوفيين المنامية، وروايات لبعض الصحابة والتابعين.
المصادر معلنة ومعروفة، ويمكن أن تقول إننا لا يمكن أن نشكك فيما سيأتى بعد ذلك، فحتمًا ما ستنقله عن القرطبى عن الجنة هنا حقائق لا تقبل الشك، وهنا لابد أن أطلب منك أن تنتظر قليلًا لتسمع ما يقوله، وما يسجله على اعتبار أنه صورة للجنة التى سيجدها المسلمون عند ربهم.
استعد لما سيقوله القرطبى والكلام له نصًا.
صفحة 459 يقول: روى الترمذى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الحور العين من أى شىء خلقن؟، فقال: من ثلاثة أشياء، أسفلهن من المسك وأوسطهن من العنبر وأعلاهن من الكافور، وشعورهن وحواجبهن سواد خط من نور».
وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: سألت جبريل عليه السلام فقلت: أخبرنى كيف يخلق الله الحور العين؟ فقال لى يا محمد: يخلقهن من قضبان العنبر والزعفران مضروبات عليهن الخيام أول ما يخلق منهن نهد من مسك أذفر أبيض عليه يلتام البدن».
ويستند القرطبى إلى كتف ابن عباس رضى الله عنه، الذى ينقل قوله: خلق
الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض، عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق النعمان، إذا ما أقبلت يتلألأ وجهها نورًا ساطعًا، كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا، وإذا أقبلت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، وفى رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر، ولكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها وهى تنادى هذا ثواب الأولياء جزاءً بما كانوا يعملون.
****
هنا لابد أن أتوقف قليلًا عند ما قاله ابن عباس ورواه القرطبى.
أولًا: لم يقل لنا القرطبى هل ما قاله ابن عباس نقله نقلًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أما أنه من بنات أفكاره، وإذا كان من بنات أفكاره فكيف وصل إلى هذه الصورة الجهنمية التى تليق بكائنات ألف ليلة وليلة، هل زار الجنة مثلًا وعاد منها ليقص علينا ما رأى، أم أنه أعمل خياله حتى قام بتصنيع هذا المخلوق الفظيع الذى لا يمكن أن يكون موجودًا فى الأساس لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، لا فى الجنة ولا فى النار.
ثانيًا: إذا كان علماء الأزهر والسلفيين - الذين غضبوا من كلام الدكتورة غادة والى وزيرة التضامن الاجتماعى، عندما أشارت إلى أن الجنة سيكون فيها رقص ومزيكا - يثقون فى كلام ابن عباس ويعتقدون أنه صواب، ويحلمون بهذا الكائن الهلامى الذى صوره، فما الذى يزعجهم إذا تخيلت الدكتورة والى أن فى الجنة مزيكا ورقصًا.
*****
نعود بكم مرة أخرى إلى القرطبى وما قاله عن الجنة وما فيها من نساء.
ينقل القرطبى عن مسلم عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء أو رشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد، وفى رواية ثانية قال: والتكبير كما يلهمون النفس».
وهذا هو الترمذى ينقل عن أنس بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «يعطى المؤمن فى الجنة قوة كذا وكذا فى الجماع..قيل يا رسول الله: أو يطيق ذلك؟ قال: يعطى قوة مائة قوة».
وينقل القرطبى ما ذكره الدارمى فى مسنده عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة رجل فى الأكل والشرب والجماع والشهوة، فقال رجل من اليهود: إن الذى يأكل ويشرب يكون منه الحاجة، قال: ثم يفيض من جلده عرق فإذا بطنه قد ضمر».
لا يزال القرطبى ينقل عمن نقلوا وقالوا، وهذا نص مما عنده، وذكر المخرمى عبد الله بن أيوب، قال: حدثنا أبو أسامة عن هشام عن زيد بن الجوارى، وهو زيد بن العمى عن ابن عباس قال: قلنا يا رسول الله أنفضى إلى نسائنا فى الجنة، كما نفضى إليهن فى الدنيا؟ قال: إى والذى نفسى بيده، إن الرجل ليفضى فى الغداة الواحدة إلى مائة عذراء.
وهذا أبو محمد الدارمى عن أبى أمامة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من أحد يدخله الله الجنة إلا زوجه الله اثنتين وسبعين زوجة، اثنتين من الحور العين، وسبعين من ميراثه من أهل النار ما منهن واحدة إلا ولها قبل ـ أى قبل شهى ـ وله ذكر لا ينثنى، وحتى لا تتعجب وتسأل عن حكاية نساء أهل النار هذه، يلاحقك هشام بن خالد أحد مصادر القرطبى فى ملحمته عن الجنة، فيقول لك: من ميراثه من أهل النار يعنى رجالًا دخلوا النار فورث أهل الجنة نساءهم.
وتخيل أنت حالة الهذيان التى كان فيها هؤلاء، محقق الكتاب أثبت فى هامشه أن حديث الميراث هذا ضعيف جدًا، لكن فى النهاية القرطبى أثبته فى كتابه، واستعان بمن يفسر له حكاية الميراث من النساء، فسيادتك بعد أن تشرف فى الجنة، ستتزوج اثنتين من الحور العين فقط، ومعك سبعون امرأة ستحصل عليهن من نساء أهل النار، فهؤلاء لا يعتبرون المرأة كائنًا مستقلًا، فزوجها الكافر سيدخل النار، أما هى فستدخل الجنة لا لشىء إلا لتكون آلة جنس يستمتع بها الرجل المسلم.. هل هذا منطق..هل هذا عقل؟ على أية حال هذا ما جاء فى كتاب القرطبى، والذى يعتقد فيه كثيرون ممن يتلقون دينهم عن الرجال دون أن يمعنوا فيه التفكير.
*****
نعاود القراءة مرة أخرى.
يقول القرطبى «يذكر أن الأدميات فى الجنة على سن واحدة، أما الحور العين فأصناف مصنفة صغار وكبار، على ما اشتهت أنفس أهل الجنة»، ويروى الترمذى عن على رضى الله عنه أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فى الجنة لمجتمعًا للحور يرفعن أصواتهن، لم تسمع الخلائق بمثله، يقلن نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كان لنا وكنا له.
هنا تدخل السيدة عائشة رضى الله عنها، وينسب إليه القرطبى قولها: إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابتهن المؤمنات من نساء الدنيا، نحن المصليات وما صليتن، ونحن الصائمات وما صمتن، ونحن المتوضئات وما توضأتن، ونحن المتصدقات وما تصدقتن..ولا تنصرف السيدة عائشة دون أن تقول: فغلبهن والله أعلم».
يتعمق القرطبى فى الحديث عن الحور العين، ينقل عن ابن وهب عن محمد بن كعب القرظى أنه قال: والله الذى لا إله إلا هو لو امرأة من الحور العين أطلعت أسوارها من العرش لأطفأ نور سوارها نور الشمس والقمر، وقال أبو هريرة، إن فى الجنة حوراء يقال لها العيناء، إذا مشت مشى حولها سبعون ألف وصيف وعن يمينها وعن يسارها كذلك، وهى تقول: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
ابن عباس يظهر مرة أخرى على صفحات القرطبى، ويبدو أنه أراد أن ينافس أبو هريرة فيما قاله، يقول ابن عباس: إن فى الجنة حوراء يقال لها لعبة، لو تفلت فى البحر لعذب ماؤه كله، مكتوب على نحرها من أحب أن يكون له مثلى فليعمل بطاعة ربى عز وجل.
ويضع القرطبى يده مرة أخرى على كلام منسوب للنبى صلى الله عليه وسلم مباشرة دون وسطاء، يقول: وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه وصف حوراء ليلة الإسراء فقال: ولقد رأيت جنبها كالهلال فى طور البدر، منها ألف وثلاثون ذراعًا، وفى رأسها مائة ضفيرة، ما بين الضفيرة والأخرى سبعون ألف ذؤابة، والذؤاب أضواء من البدر مكلل بالدر وصفوف الجوهر، على جبينها سطران مكتوبان بالدر والجوهر، فى السطر الأول بسم الله الرحمن الرحيم، وفى السطر الثانى من أراد مثلى فليعمل بطاعة ربى، فقال لى جبريل: يا محمد هذه وأمثالها لأمتك فأبشر يا محمد وبشر أمتك وامرهم بالجهاد.
*****
ينزل القرطبى بعد ذلك درجة من النبى ومن عاشوا معه إلى التابعين.
يقول: قال عطاء السلمى لمالك بن دينار: يا أبا يحيى شوقنا، فقال له: يا عطاء إن فى الجنة حوراء يتباهى بها أهل الجنة من حسنها، لولا أن كتب على أهل الجنة ألا يموتوا لماتوا عن آخرهم من حسنها، قال فلم يزل عطاء على كمد من قول مالك أربعين يومًا.
وهذا ابن المبارك ينقل عنه القرطبى قوله: أخبرنا معمر عن ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون الودى عن ابن مسعود قال: إن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم، ومن تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر من الزجاجة البيضاء.
لا يزال عند القرطبى الكثير.
فمن بين ما ينسبه لمصادره : من الحور العين فى ضمة من درة مجوفة مما نعت الله «حور مقصورات فى الخيام» على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى، وعليهن سبعون لونًا من الطيب ليس منهن لون على ريح الآخر، لكل امرأة منهن سبعون سريرًا من ياقوتة حمراء موشمة بالدر والياقوت، وعلى كل سرير منهن سبعون فراشًا، على كل فراش أريكة، ولكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجتها، وسبعون ألف وصيف، مع كل وصيف صفحة من ذهب فيها لون من طعام تجد لآخر لقمة فيه لذة لا تجد لأوله، بكل يوم صامه من شهر رمضان، سوى ما عمل من الحسنات.
*****
لا أريد أن أذهب بكم بعيدًا من ذلك، فالكلام عن الحور العين لا ينقطع، ورغم غرابته إلا أن هناك من يثق أنهم سيكونون على هذه الصورة، وأغلب الظن أن هذا اليقين يأتى من حالة الإلحاح الشديدة التى يمارسها دعاة لا يزالون يعيشون بيننا، ويتعاملون مع هذا الكلام الخرافى الذى يخاصم ما جاء فى كتاب الله، على أنه حقيقة، ويريدون من الناس أن تصدقهم، والناس يصدقونهم لأنهم يعانون، ولا يجدون علاجًا لأوجاعهم إلا أن يتخيلوا أن كل ما يقال لهم عن الجنة سيكون من نصيبهم.
****
من باب المحايلات على ما يردده الدعاة عن الجنة تأتى طريقة التعامل مع إشكالية أعتقد أنها ملغزة ومحيرة، فإذا كان للرجل كل هذا، حور عين على كل شكل وعلى كل لون، حفلات جنس لا تنقطع أبدًا، فما الذى ستأخذه المرأة، ما الذى يجعلها تصبر هى الأخرى، وما الذى يجعلها تلتزم، هل ستكون مع زوجها فى الآخرة، هذا الزوج الذى من المفروض أنه سيعيش فى غابة من الناس، وقد أنعم الله عليهم بأنه سيرفع من زوجته الغيرة، فتتركه دون مضايقات يقضى وقته مع الحوريات، وما الذى تفعله المرأة التى تزوجت أكثر من رجل، مع من ستكون فى الجنة، هل سيقفون أمامها لتختار هى... أم أن الله هو الذى سيختار لها؟
إشكالية بحث لها الكثيرون عن حل.
منذ سنوات بعيدة أدلى الشيخ إسماعيل حميدى وهو أحد الدعاة السلفيين الذى لا أعرف له أرضًا الآن، وقال فى خطبة شهيرة، إن المرأة فى الجنة ستنعم بزوجها، وسيمنحه الله قوة مائة رجل حتى يمتعها كيفما تشاء، لكن يظل السؤال عما ستجنيه المرأة من زيادة قوة زوجها، إنه يحصل على ميزة إضافية، وكأنها لا يمكن أن تحصل على شيء خاص إلا إذا قاسمها الرجل فيه.
لكن إلى جوار رؤية إسماعيل حميدى الساذجة، وقع فى يدى مقال بعنوان «أحوال النساء فى الجنة» للشيخ سليمان بن صالح الخراشى، وهو أحد شيوخ الوهابية الكبار.
أتى الخراشى إعجازًا فى الحقيقة عندما عالج أزمة حق المرأة فى الجنة.
يقول: لما رأيت كثرة أسئلة النساء عن أحوالهن فى الجنة، وماذا ينتظرهن فيها أحببت أن أجمع عدة فوائد تجلى هذا الموضوع لهن، ومنها: أن النفس البشرية سواء كانت رجلًا أو امرأة تشتاق عند ذكر الجنة وما حوته من أنواع الملذات، وأن الجنة ونعيمها ليست خاصة بالرجال دون النساء، لكن ينبغى للمرأة ألا تشغل بالها بكثرة الأسئلة والتنقيب عن تفضيلات دخولها للجنة: ماذا سيعمل بها؟ أين ستذهب؟ إلى آخر أسئلتها وكأنها قادمة إلى صحراء مهلكة، فعند ذكر الله للمغريات الموجودة فى الجنة من أنواع المأكولات والمناظر الجميلة والمساكن والملابس فإنه يعمم ذلك للجنسين.
ولأن الخراشى يدرك الأزمة، فإنه يقول: ويتبقى أن الله أغرى الرجال وشوقهم إلى الجنة بذكر ما فيها من الحور العين والنساء الجميلات، ولم يرد مثل هذا للنساء، فقد تتساءل المرأة عن سبب هذا؟
أغلق الخراشى الباب على النساء من البداية فقال: إن الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، معنى ذلك أنه لا يمتلك إجابة واضحة، يحل من خلالها هذه الأزمة، لكنه حاول أن يجتهد فقال، حتى يخرس النساء جميعًا.
فقال:
أولًا: من طبيعة النساء الحياء كما هو معلوم، ولهذا فإن الله عز وجل لا يشوقهن للجنة بما يستحين منه.
ثانيًا: شوق المرأة للرجال، ليس كشوق الرجال للمرأة، ولهذا فإن الله شوق الرجال بذكر نساء الجنة مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم «ما تركت فتنة أضر على الرجال من النساء»، أما المرأة فشوقها إلى الزينة من اللباس والحلى يفوق شوقها إلى الرجال، لأنه مما جبلت عليه كما قال تعالى «أو من ينشأ فى الحلية».
ثالثًا: يستند الخراشى إلى ما قاله الشيخ الوهابى الأشهر ابن عثيمين، فهو يرى أن الله إنما ذكر الزوجات للأزواج، لأن الزوج هو الطالب وهو الراغب فى المرأة. فلذلك ذكرت الزوجات للرجال فى الجنة، وسكت عن الأزواج للنساء، لأنه ليس مقتضى ذلك أنه ليس لهن أزواج، بل لهن أزواج من بنى آدم.
رابعًا: وحتى ينهى الخراشى الأزمة، فإنه يصنف النساء فى الجنة على النحو التالى، فالمرأة التى ماتت قبل أن تتزوج يزوجها الله عز وجل فى الجنة من رجل من أهل الدنيا لقوله صلى الله عليه وسلم : (ما فى الجنة أعزب)، ومثلها المرأة التى ماتت وهى مطلقة، ومثلها المرأة التى لم يدخل زوجها الجنة، وأما المرأة التى ماتت بعد زواجها فهى فى الجنة لزوجها الذى ماتت عنه، والتى مات عنها زوجها فبقيت بعده لم تتزوج حتى ماتت فهى زوجة له فى الجنة، والتى مات عنها زوجها فتزوجت بعده فإنها تكون لآخر أزواجها مهما كثروا لقوله صلى الله عليه وسلم : (المرأة لآخر أزواجها).
****
هذه رؤية عصرية ليست غارقة فى القدم للجنة، من زاوية ما الذى ستحصل عليه النساء، لكنها لم تختلف كثيرًا عما قيل على مر العصور، فالجنة التى تم تدوينها فى كتب التراث بعيدًا عن القرآن الكريم لم تخرج عن هدفين محددين لا ثالث لهما.
الهدف الأول: هو أن يستغل رجال الدين ما يرددونه وينسبونه للنبى عما فى الجنة من نعيم لإخضاع عباد الله الفقراء، الذين يحلمون بكل ما حرموا منه فى الدنيا، وبذلك تدوم لهؤلاء السلطة والسيطرة والنفوذ.
والهدف الثانى: أن يأخذ الرجل مما يقال عن الجنة، وما سيحصل عليه فيها وسيلة للتمايز والاستعلاء على المرأة، فهو ولأنه مفضل عند الله سيأخذ كل شيء، أما هى فلن تحصل على أى شيء، وكم كان مضحكًا عندما قال الخراشى ومن خلفه كثيرون أن المرأة أكثر حياء، ولذلك فهى لن تطلب شيئًا لنفسها.
ما حاولوا تدوينه عن الجنة فيه خلل، كما فى أشياء كثيرة خلل، وهى خلل لأننا تعاملنا مع الدين نفسه على أنه تجارة، كم سيعطينا الله مقابل أن نعبده، سيعطينا الجنة، حسنًا ما الذى سنجده فيها، وهنا دخل السماسرة ليضحكوا عليك بكل ما يغريك وأنت للأسف الشديد صدقت.. أكتفى فقط بما قاله القرآن: ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين... اطلب من الله ما يمتعك ستجده أمامك، دون أن يخدعك أحدهم باسم الدين.. فما عند الله هو وحده الأعلم به.