(11) الإدارة مخزن الأزمات ومفتاح الحلول
تظل الإدارة هى رمانة الميزان فى حراك المؤسسة والمنظومة، مدنية كانت أو دينية أو مجتمعية حتى إلى الأسرة، وهى دائمة التطور والتفاعل مع معطيات واحتياجات الحياة وتراكم الخبرات، ويزداد الأمر تعقيداً مع القفزات التقنية ودخول الفضاءات التقنية الرقمية والإلكترونية، وما استتبعه من نتائج متسارعة، أزمة الكنيسة عندنا أنها مازالت تتعامل مع الإدارة بمعطيات القرن التاسع عشر، وإن استخدمت آليات التواصل الحديثة، فيما يستحضر مثل الرقعة الجديدة والثوب العتيق، وعلى الرغم من أن صفوف إدارتها العليا دانت لخريجى الجامعات وصار أغلب اساقفتها من الحاصلين على درجات علمية متقدمة، إلا أن مفاهيم السلطة والأبوة مازالت، عند البعض، متوقفة عند نسق المجتمع الأبوى وربما القبلى، الذى تجاوزه الزمن، وتحتاج هذه المفاهيم إلى إعادة توصيف وإلى فهم متقدم يتسق مع غاية وهدف الخدمة ويوظف السلطة والأبوة لهذا، فى ضوء تطور العلاقات المجتمعية، والاختلاف الجيلى، وهو ما سبقتنا إليه كنائس تقليدية رسولية مجاورة، ولا يمكن أن نغفل التأسيس الرهبانى الذى يشكل رؤية القيادات وهو ما سنعرض له بشئ من التفصيل عندما نتناول منظومة الرهبنة.
وعندما نقترب من الإدارة وتطويرها نضع أمام أعيننا أننا لا نتعرض للقواعد الطقسية والتراتبية الكنسية الصحيحة المستقرة فى التقليد الكنسى، وإنما نقرأ الواقع الإدارى كآلية لتسيير النظام الكنسى وصولاً إلى تحقيق أعلى أداء باتجاه تحقيق رسالة الكنيسة، ودعم استقرارها، فالكيان مقدم على الأشخاص، ولعل درس التاريخ الأول يقول بهذا.
وفى مجال الكنيسة يصبح الأمر أكثر وضوحاً واقتراباً من طبيعة العلاقات داخلها فيكون المصطلح أكثر اتساعاً وأكثر تدقيقاً فيسمى "التدبير الكنسى"، فهى ليست إدارة بالمعنى الجاف للكلمة والذى يرتبط بمنظومة حقوق والتزامات، وضوابط وحدود صارمة، وإنما رؤية تسعى لتوفير أكبر قدر من التكامل والتفاعل الحيوى، المرتب، والذى يعبر عنه إعتبار الكنيسة بحسب الكتاب والآباء جسد واحد وأعضاء كثيرين، رأسه المسيح، ولهذا تصبح الإدارة الكنسية ليست منظومة مناصب بل هى منظومة خدمة تحكمها قواعد العطاء والبذل وإنكار الذات.
ونعول فى هذا على وجود قيادة مستنيرة على رأس الكنيسة ليست بعيدة عن الدراسات الإدارية، ولم تكن مصادفة أن يكون البابا البطريرك مؤهلاً علمياً وحاصلاً على درجة الماجستير فى الإدارة، من انجلترا قبل التحاقه بسلك الرهبنة. وقد انعكس هذا على جهوده فى إعادة هيكلة الإكليريكية ودعم هيئة التدريس بها بكوادر من أساتذة الجامعات، توطئة لتسجيلها فى المجلس الأعلى للجامعات، وفتح باب التفاعل مع الجامعات والكليات المناظرة بالعالم وتبادل الخبرات الأكاديمية معها الأمر الذى ينعكس إيجاباً على مستوى خريجيها ومن ثم مستوى الخدمة والتفاعل الإيجابى مع الشباب والأسر.
(12) الريان منتج تجميعى
بعيداً عن الدخول فى الصراعات الدائرة حول وادى الريان، مكاناً وديراً وتطلعات، نراه تجسيداً نموذجياً لما تحفل به أروقة الكنيسة على اتساعها من تضاريس، فمازال هناك من يتمسك بخضوع الأديرة تنظيمياً للكنيسة، واعتبارها كيانات تخضع لإشرافها، وهو أمر تفرضه أهمية الأديرة فى دوائر التعليم والرعاية وتأثيرها المباشر على الكنيسة الرسمية والشعبية، ولكن اللافت هنا أن معايير القبول والإعتراف بها تخضع لرؤى ذاتية تبتعد بها عن الموضوعية، خاصة فى حالة هذا الدير تحديداً وعلى إمتداد نصف قرن، وفقاً للموقف من الأب متى المسكين.
وهناك من يرى فى الدير تأثيراً سلبياً على موارد إيبارشيته المتاخمة له ويسعى لضمه إلى ولايته أو إغلاقه، وهناك من يصفى حساباته التاريخية مع الأب اليشع الذى يتولى إعادة إعمار الدير، والذى لا يقف بعيداً عن مكونات الأزمة، بفتحه باب الإلتحاق بالدير لكل من يرغب تأسيساً على أن الرهبنة اختيار شخصى لا يخضع لمعايير العالم ولا يشترط مؤهلاً علمياً، بحسب الآباء المؤسسين، ويسعى للفصل بين التدبير الكنسى والرهبنة، وربما بين الرهبنة ودرجات الكهنوت، لكنه لم ينتبه إلى اختلالات وتماوج العلاقات بين مكونات ديره البشرية، تأثراً بالتفاوت المعرفى بينهم، وحاجته لمراجعة ضوابط القبول، والتكوين اللاحق له.
على مستوى آخر كانت الوساطات بين الكنيسة والدير جزءًا من الأزمة، إذ شهدت توظيفاً لمصالح ضيقة، لا تبتعد كثيراً عن الحقل السياسى، وفى بعضها تفتقر لإدراك مفهوم الرهبنة ومفهوم السلطان الكنسى وجدلية العلاقة بين الأبوة والطاعة والخضوع.
لم تكن التراجعات فى دائرة التعليم اللاهوتى وخفوت التسليم الآبائى بعيدة عن الأزمة.
ولم تكن مشاكل الأديرة بعد انفتاحها على العالم بعيدة عن الأزمة.
ولم تكن اختلالات الإدارة الكنسية المتوارثة فى دوائر اتخاذ القرار والدوائر المعاونة بعيدة عن الأزمة.
ومن ثم لا يمكن النظر إلى احداث وادى الريان باعتبارها أزمة منقطعة الصلة بحال الكنيسة والأقباط، بل هى أزمة كاشفة لواقع كنسى يحتاج إلى إعادة قراءة وتحليل، وأن نمتلك شجاعة المواجهة والإقرار بوجود خلل ما وبقدرتنا على تحليله ووضع حلول تقويمية، وقد سبقتنا إلى هذا الكنيسة الكاثوليكية فى ستينيات القرن العشرين، فيما عرف بالمجمع الفاتيكانى الثانى، والذى امتلك القدرة على مواجهة واقع الكنيسة الغربية والكاثوليكية فى القلب منه، بغير التفاف أو مكابرة، وأمتد عمله فى تواصل لثلاث دورات امتدت من عام 1962 وحتى عام 1965، واشترك فى أعماله ومناقشاته نحو 2400 اسقف كاثوليكى من كافة أنحاء العالم، وكان للأساقفة الشرقيين دور بالغ الأثر فى إثراء الحوار والتوصيات، وقد دعيت الكنائس غير الكاثوليكية للمشاركة فى المجمع كمراقبين، يشتركون فى الحوار، وكان ممثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ضمن المراقبين القمص باخوم المحرقى (الأنبا غريغوريوس اسقف البحث العلمى والمعاهد اللاهوتية العليا).
وتطور الأمر فى دورة المجمع الثانية بدعوة البابا بولس السادس لعدد من العلمانيين للمشاركة كمستمعين، ويرجع اليهم خارج الإجتماعات لإستشارتهم كخبراء ، ويجرى الإعداد للدعوة للمجمع الثالث بعد أن إستجدت قضايا حادة وخطيرة عبر النصف قرن اللاحق، داخل وخارج الكنيسة، يتقدمها العولمة وتقنيات التواصل وتصاعد وتيرة إستهداف مسيحيو الشرق وغيرها.
هل ننتظر مجمع قبطى ارثوذكسى على غرار المجمع الفاتيكانى الثانى، أم نظل ندور فى دائرة مفرغة؟
تظل الإدارة هى رمانة الميزان فى حراك المؤسسة والمنظومة، مدنية كانت أو دينية أو مجتمعية حتى إلى الأسرة، وهى دائمة التطور والتفاعل مع معطيات واحتياجات الحياة وتراكم الخبرات، ويزداد الأمر تعقيداً مع القفزات التقنية ودخول الفضاءات التقنية الرقمية والإلكترونية، وما استتبعه من نتائج متسارعة، أزمة الكنيسة عندنا أنها مازالت تتعامل مع الإدارة بمعطيات القرن التاسع عشر، وإن استخدمت آليات التواصل الحديثة، فيما يستحضر مثل الرقعة الجديدة والثوب العتيق، وعلى الرغم من أن صفوف إدارتها العليا دانت لخريجى الجامعات وصار أغلب اساقفتها من الحاصلين على درجات علمية متقدمة، إلا أن مفاهيم السلطة والأبوة مازالت، عند البعض، متوقفة عند نسق المجتمع الأبوى وربما القبلى، الذى تجاوزه الزمن، وتحتاج هذه المفاهيم إلى إعادة توصيف وإلى فهم متقدم يتسق مع غاية وهدف الخدمة ويوظف السلطة والأبوة لهذا، فى ضوء تطور العلاقات المجتمعية، والاختلاف الجيلى، وهو ما سبقتنا إليه كنائس تقليدية رسولية مجاورة، ولا يمكن أن نغفل التأسيس الرهبانى الذى يشكل رؤية القيادات وهو ما سنعرض له بشئ من التفصيل عندما نتناول منظومة الرهبنة.
وعندما نقترب من الإدارة وتطويرها نضع أمام أعيننا أننا لا نتعرض للقواعد الطقسية والتراتبية الكنسية الصحيحة المستقرة فى التقليد الكنسى، وإنما نقرأ الواقع الإدارى كآلية لتسيير النظام الكنسى وصولاً إلى تحقيق أعلى أداء باتجاه تحقيق رسالة الكنيسة، ودعم استقرارها، فالكيان مقدم على الأشخاص، ولعل درس التاريخ الأول يقول بهذا.
وفى مجال الكنيسة يصبح الأمر أكثر وضوحاً واقتراباً من طبيعة العلاقات داخلها فيكون المصطلح أكثر اتساعاً وأكثر تدقيقاً فيسمى "التدبير الكنسى"، فهى ليست إدارة بالمعنى الجاف للكلمة والذى يرتبط بمنظومة حقوق والتزامات، وضوابط وحدود صارمة، وإنما رؤية تسعى لتوفير أكبر قدر من التكامل والتفاعل الحيوى، المرتب، والذى يعبر عنه إعتبار الكنيسة بحسب الكتاب والآباء جسد واحد وأعضاء كثيرين، رأسه المسيح، ولهذا تصبح الإدارة الكنسية ليست منظومة مناصب بل هى منظومة خدمة تحكمها قواعد العطاء والبذل وإنكار الذات.
ونعول فى هذا على وجود قيادة مستنيرة على رأس الكنيسة ليست بعيدة عن الدراسات الإدارية، ولم تكن مصادفة أن يكون البابا البطريرك مؤهلاً علمياً وحاصلاً على درجة الماجستير فى الإدارة، من انجلترا قبل التحاقه بسلك الرهبنة. وقد انعكس هذا على جهوده فى إعادة هيكلة الإكليريكية ودعم هيئة التدريس بها بكوادر من أساتذة الجامعات، توطئة لتسجيلها فى المجلس الأعلى للجامعات، وفتح باب التفاعل مع الجامعات والكليات المناظرة بالعالم وتبادل الخبرات الأكاديمية معها الأمر الذى ينعكس إيجاباً على مستوى خريجيها ومن ثم مستوى الخدمة والتفاعل الإيجابى مع الشباب والأسر.
(12) الريان منتج تجميعى
بعيداً عن الدخول فى الصراعات الدائرة حول وادى الريان، مكاناً وديراً وتطلعات، نراه تجسيداً نموذجياً لما تحفل به أروقة الكنيسة على اتساعها من تضاريس، فمازال هناك من يتمسك بخضوع الأديرة تنظيمياً للكنيسة، واعتبارها كيانات تخضع لإشرافها، وهو أمر تفرضه أهمية الأديرة فى دوائر التعليم والرعاية وتأثيرها المباشر على الكنيسة الرسمية والشعبية، ولكن اللافت هنا أن معايير القبول والإعتراف بها تخضع لرؤى ذاتية تبتعد بها عن الموضوعية، خاصة فى حالة هذا الدير تحديداً وعلى إمتداد نصف قرن، وفقاً للموقف من الأب متى المسكين.
وهناك من يرى فى الدير تأثيراً سلبياً على موارد إيبارشيته المتاخمة له ويسعى لضمه إلى ولايته أو إغلاقه، وهناك من يصفى حساباته التاريخية مع الأب اليشع الذى يتولى إعادة إعمار الدير، والذى لا يقف بعيداً عن مكونات الأزمة، بفتحه باب الإلتحاق بالدير لكل من يرغب تأسيساً على أن الرهبنة اختيار شخصى لا يخضع لمعايير العالم ولا يشترط مؤهلاً علمياً، بحسب الآباء المؤسسين، ويسعى للفصل بين التدبير الكنسى والرهبنة، وربما بين الرهبنة ودرجات الكهنوت، لكنه لم ينتبه إلى اختلالات وتماوج العلاقات بين مكونات ديره البشرية، تأثراً بالتفاوت المعرفى بينهم، وحاجته لمراجعة ضوابط القبول، والتكوين اللاحق له.
على مستوى آخر كانت الوساطات بين الكنيسة والدير جزءًا من الأزمة، إذ شهدت توظيفاً لمصالح ضيقة، لا تبتعد كثيراً عن الحقل السياسى، وفى بعضها تفتقر لإدراك مفهوم الرهبنة ومفهوم السلطان الكنسى وجدلية العلاقة بين الأبوة والطاعة والخضوع.
لم تكن التراجعات فى دائرة التعليم اللاهوتى وخفوت التسليم الآبائى بعيدة عن الأزمة.
ولم تكن مشاكل الأديرة بعد انفتاحها على العالم بعيدة عن الأزمة.
ولم تكن اختلالات الإدارة الكنسية المتوارثة فى دوائر اتخاذ القرار والدوائر المعاونة بعيدة عن الأزمة.
ومن ثم لا يمكن النظر إلى احداث وادى الريان باعتبارها أزمة منقطعة الصلة بحال الكنيسة والأقباط، بل هى أزمة كاشفة لواقع كنسى يحتاج إلى إعادة قراءة وتحليل، وأن نمتلك شجاعة المواجهة والإقرار بوجود خلل ما وبقدرتنا على تحليله ووضع حلول تقويمية، وقد سبقتنا إلى هذا الكنيسة الكاثوليكية فى ستينيات القرن العشرين، فيما عرف بالمجمع الفاتيكانى الثانى، والذى امتلك القدرة على مواجهة واقع الكنيسة الغربية والكاثوليكية فى القلب منه، بغير التفاف أو مكابرة، وأمتد عمله فى تواصل لثلاث دورات امتدت من عام 1962 وحتى عام 1965، واشترك فى أعماله ومناقشاته نحو 2400 اسقف كاثوليكى من كافة أنحاء العالم، وكان للأساقفة الشرقيين دور بالغ الأثر فى إثراء الحوار والتوصيات، وقد دعيت الكنائس غير الكاثوليكية للمشاركة فى المجمع كمراقبين، يشتركون فى الحوار، وكان ممثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ضمن المراقبين القمص باخوم المحرقى (الأنبا غريغوريوس اسقف البحث العلمى والمعاهد اللاهوتية العليا).
وتطور الأمر فى دورة المجمع الثانية بدعوة البابا بولس السادس لعدد من العلمانيين للمشاركة كمستمعين، ويرجع اليهم خارج الإجتماعات لإستشارتهم كخبراء ، ويجرى الإعداد للدعوة للمجمع الثالث بعد أن إستجدت قضايا حادة وخطيرة عبر النصف قرن اللاحق، داخل وخارج الكنيسة، يتقدمها العولمة وتقنيات التواصل وتصاعد وتيرة إستهداف مسيحيو الشرق وغيرها.
هل ننتظر مجمع قبطى ارثوذكسى على غرار المجمع الفاتيكانى الثانى، أم نظل ندور فى دائرة مفرغة؟