الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الاتصال الشخصي هو الأصل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الاتصال حاجة إنسانية قبل أن يكون ضرورة اجتماعية.. وتؤكد تجارب علم النفس، فضلًا عن الخبرة الإنسانية العامة، أن إغلاق منافذ الاتصال يؤدى بالفرد إلى معاناة نفسية - بل وبدنية - قاسية.. وتؤدى تلك الحالة إذا ما استمرت إلى انهيار نفسى كامل يتحول معه الإنسان إلى كائن رخو فاقد تمامًا لجهاز مناعته النفسية إذا ما صح ذلك التعبير، ولو تركنا علماء النفس وتجاربهم جانبًا، ونظرنا فى أنفسنا، وإلى البشر من حولنا، لوجدنا الصورة أكثر وضوحًا.. فالمرء مهما كانت انطوائيته، ومهما كان عزوفه عن البشر، لا بد وأن يضيق بوحدته بعد فترة تطول أو تقصر.. ولا بد وأن يبحث لنفسه عن "آخر" يأنس به، ويتفاعل معه.. ولا بأس بعد ذلك من عودته إلى قوقعته من جديد.
وحتى فى بعض حالات المرض العقلى المتطرفة، وحين يتعذر على "المريض" ممارسة الاتصال المتبادل بالآخرين، فإنه يصطنع – أو يتوهم- لنفسه آخرين يقيم معهم من العلاقات الاتصالية ما يبدو لنا غريبًا وشاذًا.. خلاصة القول إذن أن الحاجة إلى الاتصال حاجة إنسانية، شأنها شأن حاجة الإنسان للطعام والشراب والنوم وما إلى ذلك من حاجات أساسية.
ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذن إذا ما سلمنا بأن الإنسان يمارس الاتصال منذ بداية الوجود البشرى.. ولعلنا لا نجاوز الحقيقة كذلك إذا ما سلمنا أيضًا بأن ممارسة الاتصال باعتباره حاجة إنسانية كان سابقًا على توصل الإنسان لأبجديات اللغة كما نعرفها اليوم، ولكن تُرى كيف كان ذلك؟.
لقد كانت أول أشكال الاتصال البدائى تتمثل فى استخدام الإنسان للتعبيرات الجسمية كوسيلة لنقل انفعالاته وأحاسيسه إلى الآخر.. وقد شملت تلك التعبيرات أجزاء الجسد جميعًا: العيون، الأنف، الشفتان، الذراعان، اليدان، الأصابع، الكتفان، حركة الجسد ككل، إلى آخره.. وما زالت لغتنا اليومية المنطوقة بل والمكتوبة أيضًا تحمل آثارًا من تلك اللغة القديمة، لغة التعبيرات الجسمية.. ويكفى أن نتأمل تعبيرات مثل: "أوليته ظهري".. "فتح له ذراعيه".. "شمخ بأنفه".. "ربت عليه".. "قلب شفتيه".. "تمايل طربًا".. "هز كتفيه".. إلى آخره.
ولو تركنا جانبًا لغتنا المنطوقة والمكتوبة لوجدنا دليلًا آخر على عمق جذور تلك اللغة القديمة إذا ما تأملنا أساليب الاتصال لدى الطفل قبل اكتسابه اللغة.. إن الأطفال يشبعون حاجاتهم الاتصالية منذ البداية بذلك الاستخدام الماهر التلقائى لتعبيرات الجسد.. والطريف أن الكبار - وخاصة الأمهات - يستعيدون فورًا قدرتهم المرهفة القديمة على "قراءة" تلك التعبيرات الجسمية الصادرة عن أطفالهم، وترجمتها، والرد عليها.. الأم "تقرأ" نظرات طفلها، وهمهماته، وحركات رأسه.. بل إنها كثيرًا ما تستطيع أن تميز بدقة بالغة بين بكاء العتاب، وبكاء الخوف، وبكاء الجوع، وبكاء الرغبة فى النوم، أو الحاجة إلى تغيير الملابس، أو الرغبة فى أن تحمله على ذراعيها.. إلى آخره.. ولكن ما أن يبدأ الطفل فى النمو واكتساب اللغة، حتى يعزف شيئًا فشيئًا عن الاعتماد على تلك اللغة القديمة.. وعادة ما يشجعه الكبار على ذلك سواء بالتعبير له عن فرحتهم به وهو ينطق كلماته الأولى، أو بتوجيهه مباشرة إلى ضرورة استخدام اللغة المنطوقة وإلا كفوا عن استقبال رسائله: "قل ما تريد.. تكلم.. عبر بالكلمات.. كف عن استخدام الإشارات".
ولو حاولنا أن نصنف تلك اللغة القديمة وفقًا للتصنيفات التى تعرفها علوم الاتصال الحديثة، لوجدنا أنها نوع من أنواع الاتصال الشخصى، أو بعبارة أخرى أكثر أصالة "الاتصال وجهًا لوجه"، ولا يفوتنا فى هذا المقام أن نشير إلى تعبيرنا العامى الدارج "عينى فى عينك" بمعنى واجهنى مباشرة لأعرف مدى صدق ما تنطق به.
خلاصة القول إذن أن الاتصال الشخصى، أو الاتصال وجهًا لوجه، هو أقدم أنواع الاتصال من حيث السياق التاريخى سواء على مستوى المجتمع، أو على مستوى الفرد.. ولكن، تُرى ما الذى حتم ظهور نمط آخر من أنماط الاتصال هو "الاتصال الجماهيرى"، بل وسيادته شيئًا فشيئًا؟ هل يرجع ذلك إلى مجرد حداثته أو كفاءته؟ قد يكون كل ذلك صحيحًا، ولكنه غير كافٍ وحده للتفسير.. لا بد من حتم اجتماعى جعل من انتشار الاتصال الجماهيرى ضرورة اجتماعية.